أحمد الدايخ :الفقه الإسلامي تراثاً واختلافاً


كنا على الدوام نلاحظ تذمر بعض الكتاب والقراءمن التعددية والسعة الموجودة في ديننا الإسلامي، مما أدى ببعضهم إلى التشكك في أصلهذا الدين وفى أحكامه، وأدى بالآخرين إلى حصره ومحاولة إبقائه أسيراً في المسجد أوفي زاوية من الزوايا التي يتحول فيها القرآن إلى نظم من الحروف التي تتلى للتبرك دونأن يكون له دور في استنهاض همم الناس للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وعمارة الأرض.


وما تأتّى الخطل في الرأي للاثنين إلا لاعتمادهمعلى منهجية الأحادية في التفكير وتسطيح الأمور أو لعدم قدرتهم على استيعاب مثل هذهالمرونة وهذه التعددية التي وهبها الله للإسلام وأحكامه .
فإن الله تعالى خلق هذا الكون وأبدعه وخلقالناس وجعل فيهم من الغرائز والملكات ما يدفعهم إلى الاختلاف وبين أن هذا الخلاف سيظلقائماً بين البشر تبعاً لتعدد مشاربهم وطباعهم واختلاف واقعهم الزماني والمكاني، وإنهذه الشريعة لن تكون بمنأى عن هذه السنة البشرية .
فجاءت لتضع ثوابتاً لا تقبل المساس، وأباحتالتعدد فيما وراءها انسجاماً مع جبلة وطبيعة الإنسان .
وإن كان هذا التعدد يعود في شكله العمليإلى أرضية مشتركة من الرؤى الأيدلوجية .
وجاء تطبيقها من الناحية العملية على يدالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أباح وأقرّ عدة أعمال وعبادات وقعت على أوجه مختلفةمن الصحابة .
وما كان فعله صلى الله عليه وسلم وإصدارهالحكم بالصوابية على اجتهاد الصحابيين اللذين لم يجدا الماء فصليا ثم وجداه فأعاد أحدهماولم يعد الآخر إلا فقهاً منه صلى الله عليه وسلم بطبائع النفوس وعلمه بعدم استكانةأحدها حتى تقوم بعملها آخذةً فيه جانب التحوّط، واقتناع الأخرى بأن عملها هذا قد وقععلى وجه صحيح .
ثم إن هذا الدين قد جاء للناس كافة، فلاعجب إن جاء مراعياً لجميع أحوالهم ونفسياتهم وتفاوت مداركهم الأمر الذي أكسبه مرونةجعلته يتصف بصفة الخلود والقدرة على العطاء المتجدد .
قد يجد بعض الناس حرجاً في نفسه أو ضيقاًفي صدره أو تقلصاً في عقله عندما يقع ناظره على أحد الكتب الدينية التي تحوى اجتهاداتالإمام مالك أو أبى حنيفة أو غيرهم .
ولذلك اصطبغت هذه المذاهب بألوان الظروفالمعاشة في المناطق التي ظهرت فيها، رغم أنها تعتمد كلها على تنزيل أوامر الله الثابتة.
إن هؤلاء النوابغ الأوائل عكفوا على مصادرالوحي بحثاً واستنباطاً واستدلالاً لفهم مدلول هذه المصادر في مختلف نواحي الحياة ،فأثمرت محاولاتهم أفهاماً متفاعلة مع واقع الحياة التي كانوا يعيشونها .
فمن عصر الصحابة كان هذا التفاعل قائماًبين مستجدات الحياة وفقه الدين لأقوامٍ انقلبت حياتهم من الكفر إلى الإيمان فانقلبتتبعاً لذلك عاداتهم وأعرافهم فجسدوا الدين في حياة الناس ، وأثروا حضارة ، وأقامواأمةً بمؤسساتها ووظائفها ، فجاءت اجتهاداتهم واقعيةً تحاكي الواقع ولا تجنح إلى الخيالوالمثالية فكانت تحوي الرخصة والعزيمة والتدرج والتأجيل والاستثناء الخ ...
ولا أدلّ على ذلك إلا الاجتهادات التي كانتتتنوع في أقوال عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان اللهعليهم جميعاً .
ومن بعدهم أئمة المدارس الفقهية كأبي حنيفةالذي كان يمشي في الأسواق مما أعطاه علماً بطبائع الناس وأحوالهم ومعاملاتهم أصدر علىضوء هذه المعرفة عدداً كبيراً من فتاويه .
لم يختلف حاله عن حال الإمام مالك الذيكان يراقب واقع المسلمين في المدينة ويتعمق في فهمه حتى خرج بأصل من أصول التشريع لديهأسماه عمل أهل المدينة .
وكذلك كان الشافعي في مراعاته للواقع ولشخوصالناس_ وهم محل إنزال الحكم الديني _ حتى كان له مذهبان يتبع كلّ مذهبٍ منها واقعاًمختلفاً عن الآخر .*
وهذا التراث الفقهي الفكري الموجود بينأيدينا من عزائم ابن عمر إلى رخص ابن عباس إلى أثرية أحمد بن حنبل إلى روحانية الجنيدإلى دفاعات أبي الحسن الأشعري إلى ظاهرية ابن حزم إلى منطقية الغزالي إلى فلسفة ابنرشد إلى موسوعية ابن تيمية إلى اجتماعيات ابن خلدون ما هو إلا كنز يحتوى على جواهرفقهية وأدبية وفلسفية واجتماعية كانت نتاجاً لعقول متحررة عملت على فهم النصوص الدينيةوفقاً لمعطيات وقرائن يرجع بعضها إلى ذات العبارة النصية واحتمالها لأوجه عدة من ناحيةالدلالة اللغوية .
والبعض الآخر يتعدّاها_العبارة_ إلى الكونوطبيعة الحياة التي يعيشها الإنسان والتي يتفق الجميع بأنها متجددة متطورة , مما يجعلالاجتهاد في النظر والفهم وما يحصل منهما من نتائج متجددة هي أيضاً .
فلا يجب أن ينال منّا التراث الفقهي كلهذه الأحكام النقدية القاسية لأن كثيراً من هذه الانتقادات لم تُنزل هذا التراث فيظروفه التاريخية وقالبه الزمني , وأغفلت أسبابه الموضوعية وتفاعله مع البيئة التي نشأوتطور فيها .
فلا داعي لأن يتنكر المرء للخلاف أو للتراث، أو أن يضيق ذرعاً ويتوه وسط تفسيراته للأحكام الجزئية التي قد تتضارب فيها أقوالالأئمة فيستسلم لدواعي الشكوك لديه والتي لو أبدلت بالسير في الأرض والتعرف على تاريخالأمم سقوطاً ونهوضاً ، واكتشاف آيات الله في الكون و النفس والنظر في آليّات التغيرالاجتماعي التي وردت في القرءان الكريم . لاستكانت نفسه، واستراح باله ، واقتنع عقله، ولجمع بين آليات فهم الواقع وإيمانه بالخطاب الإلهي المتجدد .
ولأعطى القدسية لكتاب الله الكريم ولسنةالنبي الأمين ، وآمن بأن ما عدا هذين المصدرين من أفهام البشر هو كسب بشري قابل للاختباروالتصويب وليس له صفة القدسية .
ولعلّ هذا ما عناه الإمام مالك عندما قال: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر .
فإن فهم الإسلام لم يكن يوماً حكراً علىإنسان أو جماعة أو طائفة أو عصر فلا كهانة ولا أحباراً في ديننا، بل كان الإسلام معيناًينهل منه كل إنسان ويتهذب بهديه ويستنبط من قواعده وأسسه متى ما استجمع آليات ومعداتالفهم .
وسبب ذلك { أن النص الديني يحمل من المعانيما يناسب كل البشر في كل مكان وزمان باعتبار خاتمية الوحي وهذا ما يجعل المجموع النصييحمل من كنوز المعاني مالا يستنفذه فهماً جيل واحد من المسلمين بل يمكن أن يكتشف فيهكل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله وذلك وجه من وجوه الإعجاز } (1) .
وهذه ليست دعوة لإسقاط التراث والتوجه إلىمصدر الوحي من القرءان والسنة النبوية وبناء فهم جديد منهما لا علاقة له بالتراث فهذهدعوة تفتقر إلى أبسط أساليب البحث العلمي أولاً .
وثانياً نحن محتاجون لهذا التراث الفقهيالفكري الذي وضعته أفهام السابقين والتي كانت أقرب للأوضاع الاجتماعية والاقتصاديةوالسياسية التي زامنت نزول الوحي . كما أنها قد تعرضت على مرّ السنين إلى النقد والتمحيصمن قبل العلماء على المستوى النظري ، وتعرضت أيضاً للاختبار والتجريب من قبل الناسعلى المستوى العملي .
فعليه ينبغي أن يكون التراث وسيطاً بينناوبين القرءان والحديث ، على أن تكون وساطة استرشاد واهتداء وليست وساطة إلزامٍ وتقليد، وذلك لأن الواقع الإنساني لا يجرى على نسق ثابت في تحول أوضاعه _وإن كان متشابهاًفي أصول مشكلاته _ وشؤون الناس في تغير دائم الأمر الذي يجعل الاجتهاد ضرورياً لكلعصر .
وقد يقول قائل إن فتح باب الاجتهاد والنظروالحوار لا شك أنه سوف يدخل علينا مالا تحمد عقباه ويأتي بكل ما هب ودب، وإن كنت أتفقمعه في بعض ما قال، فإني اختلف معه في أن عصمة الأمة عن الخطأ وتواتر الوحي في الثوابتوالأصول التي تحمى كيان الشريعة من العبث، وسن الله لسننٍ من شأنها أن تبقي الأصلحلن تجعل لضياع الدين سبيلاً .
إن جمع الناس على عقل واحد ومنهج واحد يبقىأمراً غير مقبول ومستحيل في نفس الوقت ، والأجدر بنا هو جمع الناس على أدبيات واحدة.فالخلاف قدر لا حيلة في دفعه ولكن الحيلة في كيفية التعامل معه .
و { إن الاتفاق سبب للملل المؤدي إلى سوءالعشرة وهو طريق إلى انعدام التنافس لإثبات السبق والجدارة بالصواب أما الاختلاف فبإحسانالتعامل معه ستكون نتيجته النهائية وفاقاً أكيداً } . (2)
ولعله يحسن بي أن أختم بكلامٍ للإمام القرضاويساقه في بداية كتابه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) :لايزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الإسلام، والعمل على التمكين له في الأرض وفقاً لتحديد الأهداف وترتيبها وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها من حيث القوة والأمانة أو الكفاية والإخلاص .
ومن السذاجة بحيث أدعو إلى جماعة أو حركةواحدة تضم جميع العاملين للإسلام في نظام واحد، وتحت قيادة واحدة، فهذا تقف دونه حوائلشتّى وهو طمع في غير مطمع . (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كان للإمام الشافعي أقوال وفتاوى تتفقمع واقع العراق الذي كان يعيش فيه , وما إن سافر إلى مصر حتى غير كثيراً من هذه الأقوال, وأصبح يقال قال الشافعي في القديم وقال الشافعي في الحديث .
(1) فقه التدين فهماً وتنزيلاً تأليف الدكتورعبد المجيد النجار .
(2) كلمات تنسب للدكتور الشريف حاتم العونيلم أقف عليها في مطبوع .
(3) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروعوالتفرق المذموم للدكتور القرضاوي .
--------------------------
أحمد خيرالله الدايخ
امام وخطيب بالبيضاء _ليبيا

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews