د. محمد المدني : أكذوبة الثورة...وصناعة الأزلام


بقلم: د. محمد المدني
            رغم أن الحديث في موضوع كهذا سابق لأوانه، خاصة وأن الثوار مازالوا في مواجهة مسلحة مع فلول النظامالسابق، وباعتبار أن الكلام عن الثورات وصناعة الأزلام والأتباع وغيرهم ستكون لهحتما مساحات شاسعة من الكتابة في شكل دراسات وتحليلات معمقة من قبل المثقفينوالمحللين والكتاب في المرحلة اللاحقة، فعذرا.

في اعتقادي أن كلمة ثائر أوثوار لا تطلق إلا على فئة واحدة، هم الذين استأصلوا نزعة الخوف من قلوبهم وتقدمواالجموع لتغيير الواقع الظالم بوسائلهم الخاصة. وما اقتران هذا اللقب بفئة الشبابإلا لأنهم يمتلكون الطاقات الجسدية والعقلية ولديهم القدرة والحركة على تحقيقالغايات والأهداف النبيلة.  وباعتبار أنالثورية إحساس وشعور داخلي ينبع من الوجدان لذا يصعب قياسها إلا من خلال ما يحققهالثائر من أعمال مميزة حيال مجتمعه ووطنه أثناء مسيرة حياته.
من هنا تسعفنا الذاكرة بالقولبأنه كان للثوار ظهور بارز على هذه الأرض الطيبة وخلال فترات متعاقبة من هذاالعصر، سمعنا عنهم إبان الاحتلال الإيطالي لبلادنا ومرورا بمرحلة الاستقلال وبناءالدولة الليبية،  وما نشاهده اليوم بأمأعيننا، وكان لهؤلاء الثوار مسميات وصفات عرفوا بها حسب كل مرحلة من مراحلالتاريخ. فالمجاهدون والمناضلون والأحرار والوطنيون جميعهم كانوا يحملون نفس الصفة.
كل هذا المسميات فقدت معناهاواختلفت مع ظهور الملازم معمر القذافي في ليبيا سنة تسع وستين، حيث جعلها أسيرةأهوائه الخاصة، وفي النطاق والزمن الذي يحدده هو. لقد رفع منذ البداية الشعارات الثورية والمبادئ الوطنية السامية التي كانتمطلب ومسعى كل الليبيين آنذاك، واستطاع بخبثه احتواء كافة الفاعليات الثوريةالشابة بمن فيهم الذين كانت لهم توجهات فكرية وعقائدية سابقة، وأطلق على كل مناعتنق تلك الشعارات والمبادئ وله استعداد لتنفيذها صفة "ثوري". ومعالسنين اختزل تلك الكلمة وما ترمز إليه في ذاته حتى أصبحت كلمة ثوري تعني (معمرالقذافي) فقط ومقياسها الولاء المطلق له، وحمايته الشخصية.
لقد عمل بشكل ممنهج على تفريغتلك التوجهات الفكرية والشعارات والمبادئ من محتواها وقام بطمسها أو تغيير مسارهامن ذاكرة الشباب دون وعي أو إدراك منهم، بعد أن وضع خطة للسيطرة الكاملة علىالفاعليات الشابة والمتحمسة بإعلانه المبكر عن حركة اللجان الثورية وإحكام قبضتهعليها من خلال ما رفعه من شعارات متوالية تخدم هذا الغرض مثل لا ثوري خارج اللجانالثورية، وضرورة الفرز الثوري، والموت لأعداء الثورة، ليجعل من هذه الحركة التيكانت إطارا تنظيميا وحيدا يسمح للشباب بممارسة أي عمل ثوري، حركة شيطانية تنعت بكلصفات الخسة والنذالة!. كما جعل الإنتماء إليها أو الاستمرار فيها أمرا إجباريا علىمن دخلها، من خلال ما يطرحه هذا الملهم من شعارات براقة وما يقدمه من إغراءاتمادية ومعنوية وما يعلنه من حين لآخر من تهديد ووعيد لمن يخالفه الرأي، ليؤكدالتعاظم الخادع لتلك الحركة.
وتحت طائلة الطمع أو الخوف والاصطيادالمحكم تمكن من اختيار قياداتها من الأفراد الذين كانت لهم تطلعات مادية، ومنكانوا يسعون لمنصب أو مركز مرموق في الدولة، ففتحت لهم أبواب الخزائن ومنحواالدارات والمزارع والملايين وكان لهم ما أرادوا في زمن قياسي، فقط بعد تنازلهم عنشرفهم وكرامتهم الإنسانية. أما من كان على وعي بتلك الألاعيب وحاول رفضها فقد أصبحعرضة للإقصاء والتهميش والإبعاد وحتى التصفية الجسدية.
لا أحد ينكر بأن هذا الطاغيةكان يمتلك من الخبث والدهاء والوسائل الجهنمية التي مكنته من الاستمرار في عملياتالخداع والتضليل وغسيل المخ، حيث استخدمها بكل فاعلية للسيطرة على عقول الشبابوتوجهاتهم، ليسخرهم بشكل فضّ في خدمته الشخصية وتحقيق أهدافه الخاصة القريبة منهاوالبعيدة، فكون منهم العديد من المجموعات وأمر عليهم تلك القيادات المصطنعة بعد أنخصها بالمسميات الرنانة: فالنساء منهن كن إما تشكيلات نسائية،  أو راهبات ثورية، أو حرس خاص؛ أما الشباب فهمإما قوافل ثورية، أو كتائب ثورية مقاتلة، أوحرس ثوري؛ ثم رابطة أبناء الرفاقومواليد الفاتح وغيرها. وكان لا يتوانى في تحريض هذه المجموعات ضد بعضها البعضللإقصاء والتصفية، وورط العديد منهم في جرائم قتل ضد من خالفوه الرأي، ووضع العديدمنهم في مستنقع الفساد والرذيلة ليكونوا سببا في تدمير هذا البلد وتخلفه، وكونمنهم أيضا الكتائب الأمنية لاستخدامها في قتل الليبيين عندما يحين دورهم.
بهذه الأساليب وغيرها استطاعالطاغية صنع الأزلام والأتباع والموالين، وجعلهم يأتمرون بأمره ويخضعون لإشارته،وها هو بنفس الطريقة يدعوهم للزحف والتقدم ويقدمهم للموت والهلاك دون رحمة.  فهو لم يفكر مطلقا في خلق ثوريين حقيقيينيؤمنون بالوطن لأنه كان يعرف مسبقا بأنهم سيشكلون خطرا على طموحاته وطموحات أبنائهيوما ما... ولكن سنوات الوطن كانت حبلى تنتظر موعدها مع القدر لتنجب الشباب الثوريينبعد أربعين سنة ونيف لتذهله وتفقده إدراكه وتجعله يتساءل قائلا من أنتم؟ لأنهم لميكونوا من صناعته!!!

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews