تمر الأيام . وفي كل يوم مئات الصورة الحزينة ومئات الصور السعيدة . ولكن بعض اللحظات يجب أن يتوقف التاريخ لكي يسجلها , لأنها لحظة من لحظات الإنسانية .
وثورة الفرسان . ثورة 17 فبراير وجدت فيها " ورغم بعد المسافة وقلة المعلومة" , الكثير من الصور الجميلة التي كان يجب أن تخلد . وليس كالكتابة وسيلة لتخليد حدث , فالقدماء أسموا الكتابة "قيد" , أسموها قيدا لأنها تربط اللحظة وتقيدها حتى لا تهرب من ذاكرة الزمن , و حتى لا يمحوها تعاقب الأيام والسنين , وتضيع في غياهب النسيان .
أحدى هذه الصور ذات العمق الإنساني و لطالما رأيتها على الانترنت وكنت أمر عليها مرور الكرام , فلم أكن أعلم مدى عمقها وكيف تربط ماضي تليد بحاضر مجيد ’
كلنا رأى أوائل الصور التي ظهرت عند انفجار الغضبة الشعبية على الكفر والظلم والبغي الذي حاق بليبيا وبالليبيين . من تغييب وتجهيل وسوء استخدام للموارد وتسلط وإرهاب وتقتيل على يد أسرة أزاحت ملكية شرعية دستورية لتنشئ نظام مسخ لا هو بالجمهورية ولا هو بالملكية , ملك كل مقدرات ليبيا فرد واحد وأسرته , ويا للسخرية , فهم يدّعون أن لا مناصب لهم ولا عنوان في الدولة الليبية التي مسخوا أسمها إلى جماهيرية , ربما ظنوا أنهم أكبر من المناصب وأكبر من الأمة وأكبر من الدستور , وحتى أنهم ظنوا لبعض الوقت آلهة أو أنصاف آلهة وأكبر من الدين نفسه فحرفوا فيه وغيروا .
نعود للصور التي التقطت في بداية الثورة وأظن أن كلنا شاهد هاتان الصورتان .
إلى وقت قريب كنت احسب أنها تمثل ثوارا ليبيون يرفعون علما للاستقلال حديث الصنع , صنعوه ويرفعونه فقط لأنهم قرروا أن يحيوا علم الاستقلال مرة أخرى . العلم الذي كنت أحسب أنه أندثر ولم يبق إلا في قلوب بعض الليبيين ممن عاصروه . وعاصروا نشأة الأمة الليبية .
كنت أعير انتباهي لما كتب أسفل العلم . "وأعلم كم هو مهم" , فهو نفي لتقسيم ليبيا فلا شرقية ولا غربية , ولكن لم أكن أعير العلم انتباها .
ولكن كم كنت مخطأ . كم كنت بعيدا عن الواقع . فالعلم يحمل رسالة عميقة أعمق مما كنت أتصور , ولم يكن حديث الصنع , ولم يحاول الثوار في بداية الثورة إحياء علم الاستقلال . بل أكثر من ذلك وأعمق .
أنه علم الاستقلال نفسه , انه علم الاستقلال بذاته , انه علم الاستقلال الذي أنزل عن ساريته أخر مرة عام 1969 عندما أراد معمر القذافي أن يبدأ أول خطواته في تدمير ما بناه الليبيون . تدمير الدستور , وتفكيك البنية التحتية للمجتمع , وإزالة كل القوى التي يمكن أن تنافسه على المجد الذي حاول بناءة لنفسه , ولنفسه فقط .
نسى انه ابن أمة موغلة بالحضارة , انه فرد من أمة . أراد أن يكون هو الأمة وهو السيد والواحد الأحد الذي ليس مثله احد ,
ولكن هيهات أن يسكت الفرسان أحفاد الفرسان , هيهات أن ينسوا علم الاستقلال , وهو العلم الذي أختاره آبائهم وأجدادهم بأنفسهم ولم يفرض عليهم من قوة خارجية أو من متسلط داخلي .
إن العلم الذي يظهر في هذه الصور, والذي رفع في اليوم الثاني للثورة يوم 18 فبراير هو علم الاستقلال الحقيقي ! , نعم , علم الاستقلال الأصلي , هذا العلم عمره أكثر من 50عاما . وهو نفس العلم الذي كان مرفوعا على مقر الملك السنوسي رحمه الله في بنغازي " قصر المنار" . كان محفوظا في مبنى الأمن الداخلي , أعاد أحرار ليبيا رفعه على مبنى الأمن الداخلي بعد أن حرر من مغتصبيه . وعاد خفاقا كما كان , ولسان الحال يقول " قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا "
لم يكن علم صنعوه بل علم حفظوه حقيقة , وليس في قلوبهم فقط , حفظوه كأنهم يعلمون انه سيعود خفاقا طال الزمان أم قصر . هذا العلم هو احد الأعلام الرئيسية التي رفعت في عهد الاستقلال . و لكأن الليبيون يقولون ها نحن نستقل من جديد
حصلنا على استقلالنا أول مرة من استعمار إيطالي بسواعدنا وبدمائنا وبقرار من الأمم المتحدة , وها نحن نستقل مرة أخرى وبسواعدنا وبدمائنا وبقرار من الأمم المتحدة أيضا ونعيد رفع العلم ذاته .
إيه يا ثورة الفرسان . والله إني لأجد انك حقا ثورة فرسان , لم يناموا على ظلم ولم يستكينوا , وبقيت جذوة الثورة تحت الرماد , حتى إذا طفح الكيل وفار التنور , أتى الطوفان فأزاح الكفر والظلم .
حييت من ثورة وحى الله رجالك ورحم شهدائك
وإلى صورة أخرى من صور ثورة ليبيا .
صالح بن عبدالله السليمان
كاتب مسلم عربي سعودي
No comments:
Post a Comment