في السلطة
الفصل الخامس من كتاب تشريح طاغية (معمرالقذافي)
الكسندر نجارAlexandre Najjar
ترجمة : خالد محمد جهيمةKaled Jhima
فرض القذافي, بسرعة, سلطته, وأسلوبه. كان فيذلك الوقت بعيدا جدا عن الشخصية الشاذة التي رأيناها فيما بعد, على الرغم من أنهبدا متقلبا نوعا ما؛ فقد رفض, في أثناء زيارته لبنان, والأردن, وسوريا, في شهريونيو من عام 1970, الالتزام ببرنامج, بل كان يفعل, بحسب الرئيس حلو "عكس كلما هو متوقع"[1].
العقيد عدو للولايات المتحدة, وللغرب حقيق,لكنه لم يرتم بقوة في أحضان الاتحاد السوفييتي, وهو ما يؤكده المؤرخ فرانسوا بروش,بقوله : "لم يلعب القذافي قط دور حصان طروادة الاتحاد السوفييتي, كما هو حالكاسترو في أمريكا الوسطى, ولم يكن يهدف إلى تأسيس الشيوعية في بلاده, ولا إلى غرس الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط,أو في أفريقيا, ولا إلى دعمه للسيطرة عليهما"[2]
لقد دعا القذافي, لكي يحقق حلم الوحدةالعربية, العزيزَ على عبد الناصر, إلى التوحد مع دول عربية أخرى, فوقَّع, بتاريخ17 فبراير من عام 1971, اتفاق بنغازي الذي ينص على تأسيس اتحاد الجمهوريات العربية,الذي ضم مصر, وليبيا, وسوريا, بقيادة أنور السادات, وتحت راية ثلاثية الألوان,حمراء, وبيضاء, وسوداء, ومَزِينةِ بصورة صقر بلون ذهبي, يمسك بمخالبه شريطا مكتوباعليه " اتحاد الجمهوريات العربية"[3].لكن كانت هناك خلافات عميقة, على أرض الواقع, أعاقت تطبيق هذا المشروع الطموح؛ فقدساءت العلاقات مع مصر بعد حرب أكتوبر 1973. اشترك القذافي, مناصر القضيةالفلسطينية القوي, في الحضر النفطي, ودعم الفدائيين بهمة. أما مصر فقد قطعتعلاقاتها بموسكو, واقتربت من الولايات المتحدة, مع نهج سياسة المصالحة مع إسرائيل.وزاد التوتر في علاقاتها مع ليبيا, عندما أعلنت حكومتها إفشال مؤامرة ليبيةللإطاحة بالسادات[4]. ثم هددالقذافي, بتاريخ 22 يونيو 1976, بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر, إن استمرت فيالقيام بأعمال تخريبية على تراب بلاده. انفجرت قنبلة, بتاريخ 8 أغسطس من عام 1976,في دورات مياه المجمع الإداري الواقع بميدان التحرير, في القاهرة, فجرحت أربعة عشرشخصا, واتهمت الحكومة, ووسائل الإعلام المصرية, مباشرة العقيد, وأعلنت اعتقالمواطنَين مصريين دربتهما المخابرات الليبية, لارتكاب أعمال إرهابية في مصر, فردتالحكومة الليبية بزعمها تفكيك شبكة تجسس مصرية في ليبيا. حشدت الحكومة المصرية,خلال سنة 1976, قوات على طول حدودها مع ليبيا, وازداد التوتر, بين شهري أبريل,ومايو من عام 1977, عندما قام متظاهرون بمهاجمة سفارتي البلدين. ثم قرر القذافي,في شهر مايو من عام 1977, بطرد 225000 عامل مصري, في الوقت الذي بدأ فيه متظاهرونليبيون "مسيرة إلى القاهرة", وسلكوا الطريق الحدودية مع مصر؛ للاحتجاجعلى مفاوضات السلام التي يقودها السادات مع إسرائيل. لكن حراس الحدود المصريةكبحوهم, بتاريخ 20 يوليو من عام 1977, فقامت, من غد, كتيبة ذبابات ليبية, تدعمهاطائرات ميراج 5 بالهجوم على مدينة السلوم, مما دفع مصر للرد بقصف عدد من مواقعالعدو, كان من بينها قاعدة طبرق الجوية. لقد كان الأمر يتعلق, بحسب السادات,"بإعطاء القذافي درسا لن ينساه أبدا"[5].تمَّ, في نهاية عدد من الهجمات, والهجمات المضادة, التي خلفت مائة قتيل في الجانبالمصري, وأربعةَ أضعافهم بين الليبيين, فرضُ وقف إطلاق النار, بتاريخ 24 يوليو منعام 1977, برعاية الرئيس الجزائري هواري أبو مدين, وتبادلُ الأسرى بين البلدين, فيشهر أغسطس. لقد أضر هذا الصراع, الذي دفع محررا في صحيفة نيويورك تايمز إلى أنيقول : "لولا وجود إسرائيل, لتقاتل العرب"[6],بالعلاقات بين البلدين زمنا طويلا...يُحكى أن القذافي لم يكن يستقبل السادات فيالمطار, عندما كان يقوم هذا الأخير بزيارة طرابلس, بدعوى أنه مريض, فيذهب الرئيسمباشرة إلى خيمة مضيِّفه, ويضطر إلى الانحناء ليدخلها؛ لأن مدخلها منخفض جدا, ولاتنتظر الصحافة الليبية من يرجوها؛ لتصوير السادات "راكعا" أمام القائد !وعندما هدد القذافي السادات بنشر محضر الاجتماع الذي دار بينه, وبين كيسنجر, فيعام 1974, في أسوان, أعلن الرئيس تفكيك شبكة دعارة تديرها ممثلة مصرية, من زبائنها"مسؤولون ليبيون كبار. ففضل القذافي, المحرَجُ, الصمت.
لقد بدأت القطيعة بين البلدين, بعد توقيعاتفاقيات سلام كامب دايفد, بتاريخ 17 سبتمبر من عام 1978, وصار السادات, بحسبالقذافي, "خائنا" يجب على الشعب المصري إسقاطُه؛ لذا فقد رحب بقتله فيشهر أكتوبر من عام 1981, واعتبر ذلك "عقابا" له. أما السادات, فربماقام, من جانبه, بتشجيع رونالد ريغن, على تخليص المنطقة من "المجنون"الليبي.
كانت العلاقات مع الجار التونسي مضطربة أيضا؛فالوحدة التونسية الليبية (في عام 1974) فشلت, كما سلَّحت ليبيا مجموعة مسلحةمكونة من شباب تونسيين, قادوا, في شهر يناير من عام 1984, هجوما عنيفا هز مدينة قفصةالتونسية. أما في شهر أغسطس من عام 1985, فقد أمر العقيد بطرد آلاف من العمالالتونسيين, بعد أن جُرِّدوا من أملاكهم, وجُمِّدت أموالهم. وحاول إخافة الصحفالتونسية التي احتجت على هذه الإجراءات, وانتقدت نظامه بشدة, فبعث إلي مقار هيئاتتحريرها عشرات من الرسائل المفخخة, عن طريق الحقيبة الدبلوماسية, مما دعا أبورقيبة, بعد أن انفجرت اثنتان منهما في مكتب بريد المنزه, بتاريخ 25 سبتمبر 1985,وخلفتا عددا من الجرحى بين سعاة البريد, إلى اتخاذ قرار بقطع العلاقات الدبلوماسيةمع القذافي...
أُُجهِض, كذلك, عددٌ آخر من المحاولات الوحدوية,كتلك التي مع الجزائر (اتفاقية حاسي مسعود في عام 1975), والوحدة مع سوريا (1980),والاندماج مع تشاد (1981), واتفاقية الوحدة العربية الأفريقية مع المغرب (1984, حُلالاتحاد في عام 1986, على إثر زيارة شمعون بيريز مدينة إيفران), واتحاد المغربالعربي الذي ضم ليبيا, وتونس, والجزائر, والمغرب, وموريتانيا (1988), والوحدة معالسودان (1991)...كيف يمكن التعجب من هذا الفشل المتكرر ؟ يمضي العقيد, الذي يصعبالسيطرة عليه, وقتَه في الخصام مع أغلب الأنظمة العربية؛ فقد دعا الشعب المغربي,إبان أحداث سكيرات, والهجوم على الطائرة الملكية, إلى الانتفاض ضد الحسن الثاني,وأدان الحسين ملك الأردن, على إثر الأحداث الدامية التي جرت في عمان, في شهر سبتمبرمن عام , 1970, التي هلك فيها أغلب المقاومين الفلسطينيين, كما قطع علاقاته معالعراق, بعد أن وقع هذا الأخير, في شهر يوليو من عام 1972, معاهدة تحالف, وصداقةمع الاتحاد السوفييتي, واختلف مع السودان, بسبب عبور طائرات ليبية عسكرية تنقل سراأسلحة, إلى عيدي أمين, أجواءَ هذا الأخير, وهاجم دون كلل الكويتَ, والإماراتِالعربية, والسعوديةَ ـ كانت معاركه الكلامية مع الملك السعودي, في القمم العربية,ملحمية ! الأسوأ من ذلك, تدبيرُه هجمات ـ أُحبطت ـ ضد السادات, والملك حسين,والملك عبد الله[7]...
أما فيما يتعلق بالغرب, فقد فتحت فرنسا, منذخريف عام 1969, ذراعيها للقذافي, الذي كان يرغب في تقوية جيشه, وبدأت مفاوضات سريةبين البلدين, في الوقت التي كانت تُبقي فيه السلطات الفرنسية على حضر بيع طائرات الميراج لإسرائيل, الذي قررهالجنرال دي يجول في شهر يونيو من عام 1967, بعد إطلاق إسرائيل حرب الأيام الستة .لكن المخابرات الإسرائيلية, وعلى رأسها الموساد, قد أذاعت سر هذه المفاوضات,فأسرعت حكومة جاك شابان دولما, التي أزعجها هذا الكشف, بإسراع الإعلان عن"صفقة القرن" في شهر يناير من عام 1970. وقد أثار هذا الخبر ضجة, وأساءمتظاهرون يهود غاضبون إلى الرئيس بومبيدو, عندما كان في زيارة إلى شيكاغو, في شهر فبراير من عام 1970[8].واضطر, بعد أن لاحقه عشرون متحمس تقريبا, كانوا يصيحون قائلين : "عار عليكياسيد بومبيدو ! ", إلى اللجوء إلى فندق بالمر.
حاول المسؤولون الفرنسيون طمأنة إسرائيل,التي كانت تخشى من نقل معدات حصل عليها القذافي إلى مصر, فأخبروهم بأنهم ضمنواالاتفاقية شرطا يمنع ذلك , كما أصروا على ضرورة منع السوفيتيين من الاستقرار فيليبيا[9],من أجل تهدئة الأمريكيين. كما صرح بومبيدو لنيكسون, عند لقائه به قائلا :"أستطيع أن أؤكد لك أن تسليم معداتنا سيتم إيقاع بطيء للغاية, وأننا سندرب طياريهم بعناية,وببطء. لا بد من ربح الوقت". لكن الرئيس الفرنسي أخفى الحقيقة عن نظيره الأمريكي؛فجدول التسليم الزمني كان أسرع بكثير مما كان يزعم. كما أن العقد لم يكن يتضمن فقطتسليم خمسين طائرة ميراج, بل كان يشمل في الحقيقة ينص على بيع مائة وخمسين منها,وكذلك مروحيات, وصواريخ جو ـ جو ماترا 550, وقنابل ماترا, وصواريخ دفاع جوي كوبرا,ورادارات مراقبة جوية, إلى جانب طلبات أخرى تتضمن طوافات بحرية, وصواريخ بحر ـبحر, ودبابات إيه إم إكس, وصواريخ إيكسسيت ...يخلص جان بيرنار ريمو, في مذكرة سريةوُجِّهت إلى بومبيدو قبل زيارة القذافي باريس في نهاية عام , 1973 , إلى أن"اتفاق 28 نوفمبر [1969], قد نُفذ, بِعامة, بما يرضي الطرفين". كما يمكنقراءة الآتي, في الرسالة نفسها: "عزَّز العقيد القذافي, بعد أربعة أعوام منالانقلاب على الملكية, نظامَه, وظل مجلس قيادة الثورة ملتفا حوله. وهو مؤثر, علىالرغم من تجاوزاته, بنقائه, وبنشاطه, وبإيمانه بأمته العربية. أما خيبة أمله فيمحاولة الوحدة مع مصر (سبتمبر الماضي), فلا يبدو أنها قد قللت من شعبيته..."[10]
"نقاء" ؟ ستُكذب الأحداث القادمةبقسوة المستشارَ بعيدَ النظر !
أما فيما يتعلق بالداخل, فإن علاقات القذافي,على عكس ما كان يعتقد جان بيرنار ريمون, بدأت تتسمم؛ فقد "غضب القذافي", واختفى من الساحةالسياسية, فيما بين 24 مايو 1970, و14 يونيو 1970, و18 سبتمبر, و4 أكتوبر 1971, ثمفي شهر يوليو من عام 1972؛ إعرابا منه عن انزعاجه. لأن زملاءه كانوا ينتقدونه؛ لاتخاذهقرارات دون أن يشاورهم بشأنها, ولازدرائه إياهم, ولغضبه المستمر, ويطلبون منهإقامة انتخابات حرة, وتبنيَ دستور دائم[11],لقد بلغ التوتر حدا أوصلهم إلى الاشتباك بالأيدي, وإلى سحب أسلحتهم في وجوه بعضهمالبعض, عندما لا تكفي الإهانات. تعددت محاولات الانقلاب, التي كان من بينهاالمؤامرة, التي أُحبطت, والتي تورط فيها وزيران هما: حسين مازق, وعبد الحميدالبكوش, الذي لجأ إلى مصر, وأوهم القذافي بموته, بنشره, في صحيفة الأهرام, صورةلجسده مضرجا بالدماء ـ ماكياج تم بالتعاون مع المخابرات المصرية. وقد نجحت هذهالخطة تماما في إنقاذ حياته !
حُكم, بتاريخ 7 أغسطس من عام 1970, علىرفيقين سابقين للعقيد, هما المقدمان آدم الحواز, وموسى أحمد, اللذان اعتقلا في شهرديسمبر من عام 1969, لاتهامهما بالاشتراك في مؤامرة, بالسجن مدى الحياة, وعلى 21ضابطا آخرين بأحكام تتراوح ما بين ثلاث سنوات, وثلاثين سنة سجنا. ثم حكم علىالمتهمَين الأساسين, في الاستئناف, بتاريخ 17 أكتوبر من عام 1970, بالإعدام, لكنالحكم استبدل, بعد ذلك بقليل, بالسجن المؤبد.
هناك خطة وُضعت لإسقاط القذافي, في شهر يوليومن عام 1970, رسمها دافيد ستيرلينج, أحد مؤسسي الخدمات الجوية البريطانية الخاصة,وررئيس واتشجوارد الدولية الخاصة, التيتوظف عسكريين سابقين, وسُميت "مهمةهلتون"[12], وكُلفبها 25 مرتزقا إنجليزيا؛ لتحرير 150 سجينا سياسيا في طرابلس, وإثارة انتفاضة عامةضد النظام. لكن تُخلي عنها, على إثر تدخل المخابرات البريطانية, والأمريكية, التيخشيت من اتخاذ إجراءات انتقامية في حالةفشل الخطة.
صرح ألدو مورو, زعيم حزب الديمقراطيةالمسيحية, ووزير الخارجية, بعد لقائه القذافي, في شهر مايو من عام 1970, قائلا :" أَحبطت إيطاليا محاولة انقلاب ضد ليبيا. كما أوقفت الشرطة الإيطالية, فيشهر مارس من السنة نفسها, في ميناء ترييست, الباخرة كونكيستاتور 13, التي كانتستنقل أسلحة, ومرتزقة فرنسيين إلى طرابلس, للقيام بانقلاب, بقيادة عمر الشلحي,مستشار الملك إدريس السابق[13]...
اختار القذافي, كأن شيئا لم يكن, سياسةَالهروب إلى الأمام, فألقى, بتاريخ 15 ابريل من عام 1973,خطابا تاريخيا دافع فيه عنديمقراطية, تكون فيها السلطة للشعب, وقدَّم برنامجا من خمس نقاط, تضمنت إلغاءَالقوانين الموجودة, وإحلالَ الشريعة الإسلامية محلها, والقضاءَ على المعارضين"المرضى, والمنحرفين", والدعوةَ إلى الشعب المسلح, وإعلان الثورةالإدارية, والثقافية. لقد استطاع بذلك الالتفاف على مجلس قيادة الثورة, وإحداثفراغ دستوري, يعني إنكار دولة القانون, ويؤسس, باختصار, نوعا من "شريعةالفوضى", تمكنه من إدارة الأعمال العامة بطريقة اعتباطية.
بلغ السيل الزبا, فحاول, في شهر أغسطس من عام1975, ثلاثة عشر ضابطا من "الضباط الوحدويين الأحرار", وأربعة أعضاء منمجلس قيادة الثورة, (بشير هوادي, عوضحمزة, عبد المنعم الهوني, وعمر المحيشي), إسقاط القذافي, لكنهم فشلوا. وتمثلتأسباب هذه المحاولة الانقلابية الواضحة جدا في : أنانية القائد, وهيمنته, وغيابالحوار عن المجلس... عاقب العقيد, وأدخل إجراءات عقابية جديدة, يترتب عليها الحكمبالإعدام على كل مخرب.
أعلن العقيد, بتاريخ 2 مارس, في سبها, وفيحضور فيديل كاسترو "الثورة الشعبية, وغير اسم البلاد من الجمهورية العربيةالليبية, إلى الجماهيرية[14]العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى[15],وأنشأ "اللجان الشعبية", في الوقت الذي كان ينتظر فيه زملاؤه في مجلسقيادة الثورة, أن يعلن استقالته, بسبب الخلافات العميقة بينهم, وبينه. لكنه استبدلبمجلس قيادة الثورة أمانة مؤتمر شعب عام, في ظل استياء أعضاء المجلس, الذين سينتهيأغلبهم, في المنفى, أو تحت الأرض. وعين, بعد أن أصبح قائد السفينة الوحيد, أمينَمؤتمر الشعب العام, وهو لقب سيحمله إلى عام 1979, الذي أعلن فيه نفسه"قائدا" ـ ضمن له هذا المنصب حصانة (ليست له مسؤولية رسمية ), وعدمقابلية للعزل (ليس هناك من هو أعلى منه ), وطول بقاء (عاصر ثمانية رؤساء أمريكيين)! وبدأ يصرح منذ ذلك الوقت قائلا : "أنا قائد الثورة التي قامت في عام 1969.وقد سلَّمت, في عام 1977, الشعب السلطة, عن طريق المؤتمرات الشعبية. القائد لهقيمة رمزية, كالملكة اليازابيت ! ". لكن هذه الجمهورية ليست علمانية. فقد تبنىالعقيد, المتعصب المتشدد, في عام 1977 بعد قطيعته مع مصر, التي يشبه علمها علمليبيا, علمَ الإسلام الأخضر رمزَ الأمل, والتجديد في بلد صحراوي؛ ليُظهر بوضوح أنالإسلام هو دين الدولة, وأن "القرآن شريعة مجتمع الجماهيرية". وحولكاتدرائيتي طرابلس, وبنغازي إلى مسجدين, ومنع الخمر ـ منعا مازال مستمرا, حتى فيالفنادق ـ, وشجع الرجال على التخلي عن لبس ربطات العنق, "رمزالصليبيين", وساعد على تأسيس جمعية الدعوة الإسلامية, التي تهتم بنشر الدينالإسلامي في أفريقيا, وفي آسيا, وفي أوروبا[16].وتملك هذه الجمعية, المستقرة في طرابلس, والمزودة بوسائل مهمة, جامعة تقدم منحا,وتمنح, بعد أربعة سنوات دراسية, شهادة داعية, وإذاعة مسموعة, هي إذاعة القرآنالكريم, التي تبث برامجها إلى أفريقيا, وأوروبا, منذ عام 1977. كما تقوم, بفضلمساعديها الذين يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف (دعاة, وأساتذة, وممرضين, وأطباء)بمساعدةالمحتاجين, وتدريب المعلمين, ونشر الإسلام,واللغة العربية[17], وتمولبناء أماكن العبادة؛ فقد افتتح, بتاريخ 24 يونيو من عام 2009, مسجدٌ يسع أربعةآلاف مصل في مدينة سيجو, بمالي, وحضر الافتتاح أمين الجمعية العام, محمد أحمدالشريف, الملقب "بالسيد إسلام". وقد كلف هذا المشروع مبلغ 1,6 مليارفرنك أفريقي (حوالي 2,5 مليون يورو) ! توجد أيضا «قوافل تدعو إلى الإسلام",تجوب أفريقيا, منذ عام 1982, وتقدم العلاج الطبي, والتعليم الديني....
لا يُخفي القذافي عداءه"للمسيحيين"؛ فقد صرح, بتاريخ 15 أغسطس من عام 1980, في مقابلة مع صحيفةالسفير ـ التي كان يدعمها ماليا ـ بأن "من الضلال أي يكون الإنسان عربيا,ومسيحيا في الوقت نفسه؛ لأن دين الأمة العربية هو الإسلام. إن كانوا (المسيحيون)عربا أقحاحا, فعليهم أن يعتنقوا الدين الإسلامي, وإلا فإنهم سيصطفون, من وجهة نظرروحية, إلى جانب الإسرائيليين. يمثل تعدد الأديان في قومية واحدة شذوذا؛ لذا فإنمن الغريب ألا يكون العربي مسلما." مثل رائع عن التسامح ! كما سأل, بازدراء,الوزير اللبناني مروان حمادة, الذي جاء ليدعوه إلى حضور القمة العربية في بيروت,قائلا : "ما الذي يقدمه الموارنة للبنان ؟ ما هذه الطائفة ؟ من يحسبون أنفسهم؟ لقد انتقد؛ لاقتناعه بأنه المتحدث باسم المسلمين في العالم, بشدة الدولالاسكندينافية, التي نشرت فيها الرسوم الساخرة التي تصور النبي معمما بقنبلة. يقول: "من يهاجمون, في الدول الاسكندينافية, محمدا, فهم يعتدون, في الواقع, علىرسول بعث إليهم, لذا فإنهم جهلة, ومرضى, وحاقدون, وعنصريون في نظر الرب, وعيسى,وموسى...إنهم يعتقدون أن محمدا رسول مرسل إلى العرب فقط. لكنه, في الحقيقة, مرسلإلى العرب, وإلى غيرهم. وهو رسول مؤسل إلى الاسكندينافيين أنفسهم, على الرغم مناستمرارهم في إنكاره", ويضيف في خطاب ألقاه في تمبكتو , قائلا : "منحقنا, في ظل التباهي باحترام حرية التعبير, أن نرى رسما يصور عيسى معمما بقنابلنووية؛ لأن أتباعه هم من اخترعها...من المتصور أن نرى أيضا, كما صوروا محمدا محيطابنساء محجبات, بحجة احترام حرية التعبير, وحرية الصحافة, رسما لعيسى, وهو محيطبنساء عاريات؛ نظرا؛ لأن النساء المسيحيات كذلك. تعتبر نساء اسكندينافيا أنفسهنمسيحيات, على الرغم من عريهن". إنها سباحة في بحر من الهذيان. دعا,في شهرفبراير من عام 2010, بوضوح إلى الجهاد ضد الاتحاد "الكافر, والمرتد" !بسبب غضبه من سويسرا؛ لمنعها بناء منارات للمساجد.
لكن القائد صرح, ليتميز عن الإسلاميين, الذينأقسم بالقضاء عليهم, بأنه ضد تعدد الزوجات, ولم يفرض الحجاب, الذي يراه"واهنا", ويقارنه "بورقة عنب حواء التي هي من عمل الشيطان"[18].جعل من نفسه, بعد أن فرض نفسه "إماما" (يخطب غالبا في المساجد), محامياعن إصلاح جريء, زعم فيه أن الكعبة لا تزيد عن كونها مبنى كباقي المباني, وأنالمكان وحده هو المقدس, كما شكك في السنة, التي تضم, بحسبه, تخمينات, وتباينات,وأعطى نفسه الحق في تفسير النص القرآني ـ مما أثار سخط عدد كبير من العلماء, وشجعالملك الحسن الثاني على أن يصفه "بالمرتد". ووبخ الأصوليين الإسلاميين,الذين يعتبرهم "خدم الإمبريالية", و"أعداء التقدم, والاشتراكية,والوحدة العربية", واعترض على فكرة الحكومة الدينية, على الرغم من دعمهالثورة الإيرانية على الشاه, المتهم بتحالفه مع إسرائيل. خلص كل من أندريه لاروند,وفرانسوا بورجا[19], إلىالقول : "إن كان القذافي تقيا جدا, ليكون ناصريا بكل معنى الكلمة, فإنه فيالوقت نفسه ناصري متشدد, لكي لا يعترض ظهور إسلام سياسي".
أما على المستوى القبلي, فقد توصل القذافي إلىالتعامل مع القبائل, مستخدما التخويف, والتهديد, والمكافآت والتفاوض[20].فالقبيلة بحسبه "مظلة اجتماعية طبيعية, تحفظ أمن المجتمع, وتضمن, بحسبتقاليدها, لأعضائها دفعَ الديات,والغرامات, وكذلك الثأر, والدفاع ـ أي حماية اجتماعية" ! من الواضح جدا, أنالقائد لا يبحث عن إلغاء النظام القبلي, وهو موقف يمكن ملاحظته عند كل الدكتاتوريينالعرب. يبين التونسي منصف المرزوقي في كتابه (المقابلة), ذي العنوان المناسب بقاءالطغاة[21],أن " أعضاء الحزب الحاكم أنفسهم, لا يشككون أبدا في بعض العلاقات الأساسية...وأن آليات التوجيه العقائدي الرسمي, لا تضع بعض أشكال التضامن العائلي, والاجتماعيموضع الشك". لكن النواة الصلبة التي يتكئ عليها الطاغية الليبي, تتكون منأعضاء من عشيرته هو...أنشأ في عام 1988, القيادة الشعبية الاجتماعية, التي يفترضفيها تمثيل القبائل, والعشائر, والوجهاء, وتقليص دور اللجان الثورية. وألزم كلقيادة شعبية اجتماعية, تفويض منسق, يكون هو المتحدث الرسمي مع السلطة المركزية.يظل التضامن القبلي, في الواقع, حقيقة لا يمكن تجاوزها, على الرغم من أن الاختلاطالحضري, قد صاحبه اختلاط قبلي شوش على التوزيع الجغرافي التقليدي...
[1] Charles Hélou, op. cit., p. 17.
[2] Histoiremagazine, n° 24, 1982,p. 37.
[3] أضيف, من ناحية أخرى, على العلم الليبي, تحتالصقر لفيفة تحمل العبارة التالية "الجمهورية العربية الليبية".
[4] ربما تكون إسرائيل قد زودت السادات بمعلوماتتفيد بتدبير القذافي مؤامرة للإطاحة به (Times, 14, août 1978).
[5] The Washington Post, 23 Juillet 1977.
[6] The New York Times, 24juillet 1976.
[7] الحياة, 23 فبراير 2011.
[8] Alain Ferejean, C’était George Pompidou,fayard, 2011, p. 331-332.
[9] Collectif, Histoire de la diplomatiefrançaise, Perrin, 2005, p. 911 ; Vincent Nouzille, Les Dossiers dela CIA sur la France, 1958-1981, Hachette, « Pluriel », p. 332.
[10] Note du 23 novembre 1973, archives de la présidence de la République,5AG26100, Archives nationales.
[11] المقريف, ليبيا : من الشرعية الدستورية إلىالشرعية الثورية, ص 222 ؛ عبد المنعم الهوني, الوسط , سبتمبر 1995, عدد 189.
[12] P. Seale et M. McConville, The HiltonAssignment, New York, Praeger, 1973.
[13] Arturo Varvelli, L’Italia et l’ascesa diGheddafi, Baldini Castoldie Dalai, 2009.
[14] مولد مشتق من جمهورية , وجماهير.
[15] أضيفت هذه الصفة في عام 1986, بعد الغارةالأمريكية على مدينتي طرابلس, وبنغازي.
[16] H. Bleuchot, et T. Monastiri, « le régime politique libyen etl’islam », Pouvoirs, 12 décembre 1980, p. 131-134 ;H. Mattes,« La da’wa Libyenne entre le Coran et Le Livre vert »,in Otayek (dir), Le Radicalisme islamique au sud du Sahara, Karthala, 1993,p. 38.
[17] اعتنق, على سبيل المثال, الإسلام ثلاثة آلافقروي في التوجوو في عام 2008, بفضل جهودالعاملين في الجمعية, وكذلك عشرات المواطنين الموزمبيقيين, والسويزلانديين,والبنينيين, والغينيين, والبوركيين, والمدغشقريين.
[18] Discours du 16 septembre 1988 au parlement tunisien.
[19] Op. cit., p. 67.
[20] PatrickHaimzadeh, Au cœur de la Libye de Kadhafi, J.-C. Lattès, 2011, p. 92.
[21] Moncef Marzouki, Dictateurs en sursis, Entretien avec VincentGeisser, Editions de l’Atelier, 2009, p. 49-50.
No comments:
Post a Comment