ابراهيم قراده/ : محمود جبريل وكفاءة مبرر الكفاءة في ثورة التحرير الليبية الثالثة


ثورة التحرير الليبية الثالثة ثورة مجيدة وجليلة، سطر فيها شباب 17 فبراير ملحمة عظيمة في العطاء والتضحية والفداء. والان، اذ تقترب مرحلة التحرير من ذروة خاتمتها، بتداخلها مع المرحلة المؤقتة/ الانتقالية التي يرأس جانبها التنفيذي السيد محمود جبريل، فان بدائل المرحلة تلوح وتزداد ملامحها. فالهدف والامل ان تسير الامور حسب المراد لها، لتتحقق اهداف شباب الثورة متجسدة في ليبيا، وطن ودولة تسودها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والرخاء في ظل الدستور والمؤسسات وسيادة القانون، لتعود للمواطن كرامته وللوطن حريته وعزته.


إختفاء الديكتاتور القذافي من الساحة الوطنية هدف اصيل ومشترك للثورة والثوار، إلا ان غياب هذا الهدف المشترك المرحلي يفتح الباب على مصراعيه لبروز الاراء والتوجهات المختلفة وربما المتنافسة. وفي ظل قصور رئيس المكتب التنفيذي في ادارة الازمة والفترة، ومن ذلك عجزه عن تحسس وتلمس وبل حتى الاقتراب من استحقاقات الثورة النبيلة ومطالب الثوار المشروعة وتطلعات الشارع الوطني العادلة، لدى كانت الضرورة للنقد البناء، الصريح والواضح، لذلك الاداء حرصا على الثورة والوطن من نتوءات ومنزلقات خطيرة تتراكم منذرة بعواقب لم تكن من اهداف الثورة.

صحيح، ان المرحلة حرجة وتتطلب من الجميع الصبر والتفهم لضمان استقرار الوطن وسلامته، ولكن السكوت قد ينتج عنه انحرافات سلبية يصعب معالجتها لاحقا، مما يؤدي الى عمليات تدخل قد تكون مؤلمة، بتأخر فعل تصحيح المسار. شعار " لا صوت يعلو على صوت المعركة" يتضمن فهم هدف المعركة وطبيعتها وشروطها. وهذا الشعار استخدم غرضيا وسلبيا طويلا في منطقتنا، وعانت منه شعوبنا الويلات المعروفة.

ولعل في كلمة الحق التي اريد بها باطل، اصرار رئيس المكتب التنفيذي على احتكار القرار السياسي دون التشاور مع الاطراف الفاعلة والمهمة في ميدان النضال والساحة السياسية، تحت مبرر "الكفاءة". فمضغة "الكفاءة" اخطر المبرارات المساقة لاقناع الرأي العام والدولي، لضمان التطبيع السريع للحياة السياسية والاقتصادية والادارية للدولة. وتحت ذلك المبرر تم تقديم وتسهيل وتسويغ الاستعانة وبل ودعوة ازلام النظام المنهار المتنفذين (المتسلقين) للعودة لقيادة مواقع مهمة في الهرم السياسي والاقتصادي والاداري للدولة.

الحجج عديدة وراء هذه الظاهرة الغريبة عن تاريخ الثورات، وبل حتى في الانقلابات والتغيرات السياسية السلمية التي تحدث في الدول المستقرة والراسخة في النهج الديمقراطي، حيث يتم تغيير الطواقم السياسية والادارية العليا بعد الانتخابات. فما بالك بثورة الشعب الليبي المجيدة التى قدم فيها الشعب الليبي التضحيات الجسام من دماء كريمة واجساد عزيزة واملاك غالية واوقات عصيبة. فالثورة لم تكن فقط ضد الطاغية القذافي وابنائه فقط، بل وضد نظامه وازلامه الذين ولغوا في دماء الليبيين واستباحوا حرماتهم واذلوا كرامتهم ونهبوا قوتهم وخربوا وطنهم ودمروا اقتصادهم. الغريب، ان يطلب من الليبيين بالحاح بقبولهم، كأن الشعب الليبي كائن لا تسري عليه نواميس الاجتماع والتاريخ. فكل الشعوب في ثوراتها الكبرى تنشد التغيير، ومن صلب التغيير التخلص من اعوان الطاغوت وادواته. وهكذا، فالغرابة مصدرها القائم بالطلب لا استجابة المطلوب منهم.

حجة الكفاءة متهافتة كالحائط الآيل للتهاوي. فالعمل النضالي ومنه السياسي، وبالاخص في المرحلة الراهنة له شروط وجود. لا جدال في ان المؤهل والخبرة ومحصلة التجربة تأتي في مقدمة الاشتراط، إلا ان الاهم هو استباقها واقترانها بدرجة ومدى العطاء للوطن. فالسياسة علم وفن، وهكذا فهي ليست من باب "تعلم الحجامة في رؤوس الايتام". اما مفهوم وحجة التكنوقراط فهو مفهوم فني قد يؤدي دوره في قيادة الشركات والمؤسسات الكبرى لا الدول، ما بالك بالدول في حالة الثورة. فالاستعانة بالتكنوقراط الغير مسيسين ظاهرة عالم ثالثية كان وراء انتشارها هوس الطغم الديكتاتورية باستبعاد الطبقة السياسية المحنكة في فنون المطالب والتوازنات والتسويات. وتزداد الريبة عندما نرى ما يجري هو استدعاء والاستعانة بتكنوقراط متورطين مع النظام، وسجل ادائهم ومحصلة خبرتهم هو الفشل والاخفاق والخسائر والفساد لا غير. ان حصر مفهوم الكفاءة في المؤهل والخبرة الفنية دون التجربة السياسية هو كمثل تشكيل منتخب كرة القدم من المدربين دون اللاعبيين. فمدرب كرة القدم، مهما كان عبقريا في الخطط والتدريب والتحليل لا يستطيع ان يكون موهوبا دائما في لعب كرة القدم وتسجيل الاهداف وحماية المرمى. بل اننا رأينا استدعاء لاعبيين فاشلين من منصة كبار الضيوف اومن مقاعد ملعقي المباريات السياسية الهواة!

فالسيرة الوظيفية للكفاءة في الوظائف السياسية مرتبطة بالمنتج السياسي لا بعدد صفحات المناصب في وظائف نظام ديكتاتوري فاشل بجدارة وفي دولة جوعت شعبها ونهبت ثرواته حتى اخر لحظة وقطرة. قد نقرأ سيرة بل ملعقة وظيفية لمرشح لوظيفة سياسية لا نجد في طياتها ولو سطر وحيد عن عمل وطني او تطوعي او اجتماعي خيري. مما شجع على تدافع مراكز النفوذ في النظام المنهار، وهم من هم من قوى مالية حازوها بالتموضع ومولاة ذلك النظام. كما اننا لم نسمع، بتقديم أي اعلان عن ترشح لوظائف او طلب اقرار ذمة مالية أو حتى سؤال عن " من اين لكم هذا؟" لاي متقلد لوظيفة قيادية في المرحلة الراهنة. فالثورة قامت ضد الديكتاتورية والفساد وسوء الادارة والمحسوبية، ومن اجل الحرية والعدالة والمساواة والشفافية والفعالية، لا ضد الطاغية وابنائه فقط.

اما حجة ضمان سيرورة العمل، فهي حجة واهية كذلك. فاضافة الى فساد وفشل القيادات العليا السابقة، فمن المعلوم علما وممارسة ان عصب استمرار اي مؤسسة هو الادارة الوسطى والفنية. فتغيير الادارة العليا شيء معروف ومعتاد في كل المؤسسات الكبرى والجهات الرسمية، في الدول الديمقراطية او بعد التغييرات السياسية. فدينمو استقرار الاعمال هو الادارة الوسطى والشابة التي يجري اقصائها بعمد رغم مؤهلاتها وخبرتها ورغم تهميشها الطويل من النظام المنهار.

ومن الحجج المتداولة هو تدارك تجربة "اجتثات البعث في العراق " التي كانت وخيمة العواقب. إلا ان تطبيق عبرتها في ليبيا، طالت فقط القيادات المحلية التي لاحقها ثوار الميدان بشراسة دون رؤوس الارهاب والفساد التي حمتها حجة "الكفاءة"، بعدما وجدت الفرصة الهروبوالانشقاق في اخر اللحظات لتغير لون سترتها ولكنة لسانها، دون ضرورة تغيير لون قلبها ولا حتى جلدها، فكان يكفيها كصك براءة اعلان الانشقاق ورواية مموجة عن وطنيتها ونضالها مع بعض الدموع المسكوبة امام الكاميرات، ليتم الغفران واحتضانها بدعوى "الثورة تجب ما قبلها". خطورة اجتثاث البعث العراقي انها كانت شاملة إلى المستوى القاعدي دون حصرها في الهرم المتعفن، وتجربة ثوار تونس ومصر على ضرورة اجتثات رموز السلطة والفساد درس مقرع لمن يصر، تغفيلا او سذاجة، على اغلاق عقله عن الفهم.

كما ان الاستعانة بقيادات وخدم النظام المنهار، يجعل من الصعوبة بمكان ويعرقل عملية المحاسبة والتتبع القانوني والاجتماعي، والتي ستكون حجر اساسي في جهد الحقيقة والمصالحة الوطنية المنشودة. وذلك خطر كامن على مستقبل الوطن وخذلان للثورة وتنكر لتضحيات الليبيين وتجاوز لمعاناتهم.

معالجات السيد محمود جبريل لرفض الثوار والشعب الليبي للمتسلقين بمبررات الكفاءة واكبتها زيارات وجهود، لا داعي للغوص في نواياها، إلا انها اسفرت عن تأسيس بدايات ظاهرة المحاصصة والجهوية والشللية، عند بذله لمحاولات الالتفاف لتلطيف الاحتجاج على اسلوبه في المجال. الثورة ابانت عن مشهد اسطوري من الايثار الوطني بدأت سلوكيات الاثرة الانانية تزحف عليه لتغتاله في مسعى لتلويث الثورة وخطفها.

يصعب استيعاب كل ما سلف وغيره بالنظر الى المتداول عن كفاءة ودهاء وحذاقة السيد رئيس المكتب التنفيذي، وهو صاحب السيرة الوظيفية الثقيلة في مؤسسات الدولة الليبية سابقا وحاليا ومنظمات عابرة للوطن، وهو المتصدي لحدث تاريخي عملاق صنعه ابناء ليبيا الابطال، بان يتغاظى او يغفل عن تلك الماخذ والمطاعن، متجاوزا وهاملا اصوات تتصاعد منبهة عن انحرافات وتشوهات في المسار. كما ان عمليات التموضع الجارية في مفاصل الدولة الليبية، داخليا وخارجيا ودبلوماسيا واستثماريا، قد يفهم منها على انها محاولة استباقية لتركيز قوى سياسية ومالية ستكون مؤثرة حال استطالة الفترة الانتقالية او حال خروج السيد جبريل من دائرة صنع القرار مباشرة.

وفي خطبة تنصيب الرئيس الامريكي جون كينيدي عبرة لمن تكفيه الاشارة لا قرعها، حين قال مقتبسا عن "جبران خليل جبران": "لا تسل عما يمكن ان يقدمه وطنك لك، بل ابحث عن ما يمكنك ان تقدمه له"

لهذا كان هذا النقد المباشر من باب الفعل الايجابي حتى لا يصدق الحدث قول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لا حياة لمن تنادي، ولو نار نفخت بها أضاءت .. ولكن أنت تنفخ في رماد. او المقولة الرائجة بأن " الثورة يتطلع اليها الشعب ويخططها لها المناضلين ويصنعها الثوار ويركب موجتها الانتهازيين/ المتسلقين"



ابراهيم قراده/ ادرار نفوسه


طرابلس، 02 اكتوبر 2011

igrada@yahoo.co.uk

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews