نورالدين السيد الثلثي : هيكل والثورة الليبية

لست في قامة الأستاذ محمد حسنين هيكل، ولكن ما ورد منه في الجزء الثالث من حواره ’بصراحة‘ والمنشور في الأهرام بتاريخ 23 سبتمبر 2011 بشأن ثورة 17 فبراير استفزني أيما استفزاز. فهو يتجاهل حقائق الوضع في ليبيا القذافي ـــــ وكنت ألتمس له العذر لو كان جاهلا بها ـــ ولا أجد، من ناحية أخرى، عرضَه لمقدمات الربيع العربي مقنعاً أو ملامساً لواقع أنظمةٍ عربية فاسدة مستبدة، نجد الأستاذ هيكل يتعامل معها بأريحية لا تستحقها.

في طرحه للمقدمات ينظر الأستاذ هيكل إلى الأوضاع العربية من زاويتها القومية وقضيتها المركزية التي هي القضية الفلسطينية، وحسب. وهذا منظور مسطح يتوفر فيه بعدٌ واحد فقط من أبعادَ عدّة. يقول الأستاذ هيكل:

"لقد تبدّى في بعض سنين الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين أن هذا المشروع العربي قابل للبقاء وقابل للنجاح، ثم فجأة تخلي العرب عن مشروعهم"؛

"وهذا ما نراه هذه اللحظة: مشروع قومي يتهاوي"؛

"... فإن أحدا لا يستطيع إنكار أن النظام العربي راح يهتز منذ سنين، ثم يتآكل ويتداعي، وهذه عملية بدأت للدقة مع خروج مصر من العالم العربي بصلح منفرد مع إسرائيل ثم تواصلت مع حرب أهلية في لبنان ثم مع حرب ضد إيران ثم مع غزو للكويت ثم مع تدمير للعراق ثم مع جهالة ليس لها نظير في إدارة القضية الفلسطينية، والقائمة طويلة". الوطن العربي يمر بتقسيم جديد. التقسيم الأول، تقسيم سايكس ـــ بيكو، كان جغرافيا، والتقسيم الجاري الآن تقسيم ’للموارد والمواقع‘.

منظور الأستاذ هيكل هذا يخلو من أي اعتبار لطبيعة أنظمة الحكم العربية وتغييبها للمواطن العربي، بل ويتجاهل تماماً حالة القهر والفقر والمهانة التي يعيشها المواطن على يد تلك الأنظمة. لا يزال المنظور الكلّي للأستاذ هيكل مؤسَّساً على قضية التحرر الوطني وثنائية الاستقلال والاستعمار وحدها، ويستمر في بناء أحكامه على ما يجري في ساحاتنا العربية من ذات منظور تحرير الأوطان الذي كان همّ أمتنا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، في وقتٍ تغيّر فيه مفهوم الاستقلال نفسه وتحوّلت أولويات الهمِّ العربي من تحرير الأوطان إلى تحرير المواطن وكرامة الإنسان.

أزعم أن إغفال طبيعة الأنظمة العربية وحال المواطن تحتها من معادلة الأستاذ هيكل هذه يمثل خللا جسيما في طرحه، وعلى أرضية هذا الإغفال يسقط ما رتّبه الأستاذ هيكل من تحليل ونتائج. ولعل الدليل الناصع على ذلك هو أن ثورات الربيع العربي جميعاً لم ترفع شعارات قومية، بل كانت ثورات عنوانها العريض هو استعادة الكرامة واستعادة الأوطان نفسها من مغتصبيها... العرب.

ويتناول الأستاذ هيكل بعد ذلك الثورة الليبية بالتحليل، فيضيف إلى تجاهله لطبيعة نظام القذافي الدموية وسفهه وتبديده لمقدرات الليبيين، تجاهلا آخر لخطر محدق استهدف تدمير مدينة بنغازي بمن فيها وما بعدها في الشرق الليبي، بعد قتله وإصابته للآلاف من المواطنين العزل المتظاهرين رفضا للمزيد من القهر تحت حكمه. ماذا فعل النظام العربي المهترئ، وماذا كان متوقعا منه أن يفعل؟ النظام العربي تجمُّعٌ لحكومات أوتوقراطية مستبدة تقف أمام خطر داهم مشترك، ظنت السلامة في مقاومة الربيع ’من تحت الطاولة‘ أو التزام الصمت وكأن المجازر لا تدور. بماذا يشير الأستاذ هيكل على الليبيين في مواجهة هذا الخطر الوجودي المحدق والمحقق لا محالة؟ أن يستسلموا لآلة القتل الجهنمية وقد أضحت على مشارف المدينة أرتالا من الدبابات والمدرعات تمتد كيلومترات طويلة، متجهةً نحو هدفها: تقتيل وتدمير وهتك أعراض؟ لقد استغاث الليبيون بالعالم واستجاب لاستغاثتهم من استجاب. كان الليبيون أمام خيارين: انتحارٍ جماعي أو ذلٍّ مستمرٍّ تحت القذافي وأولاده، واختار الليبيون الحياة، مقدمّين في سبيلها عشرات الآلاف من الشهداء ومرحّبين بالعون لهم في محنتهم من حيث أتى. ولم يكن هذا الخيار، لدى جانبٍ من المتفرجين،’معقولا أو مقبولا‘.

نعم ساند الغرب معمر القذافي وعامله معاملة "الأمير المدلل"، ثم خذله وتنكّر له، ذلك أنه "ليست هناك عهود للدول الا ما تقتضيه أسباب القوة فكلهم سوف يتنكر لأي عهد عند أول منحني علي الطريق إذا دعته مصالحه". هذا صحيح ولا خلاف عليه سوى أن الأستاذ هيكل تغاضي عن العنصر الجديد الذي تغيرت له حسابات المصالح لدى الغرب، وأدى به إلى إدارة الظهر للقذافي ونظامه. ذلك العنصر الجديد الذي فرض نفسه على حسابات الغرب هو ثورة الشعب الليبي التي لم يحسب لها أحد أي حساب، والتي استمرت أنظمة العرب، ومعها منظّرو ومحلّلو المقاعد الوثيرة، في تجاهلها والتقليل من شأنها.

وكنت أود لو أن الأستاذ هيكل امتنع عن ترديد "ما يعلم مما يقرأ" من دون سند موثق. فذلك ترديد لأقاويل مجهولة المصدر ـــ في أحسن تقدير ـــ لا يليق بالأستاذ هيكل. يقول الأستاذ هيكل:

"نحن نعلم مما نقرؤه الآن أن نفط ليبيا جرى توزيع امتيازاته فعلا، وبنسبٍ أذيعت علي الملأ، كانت 30% لفرنسا، 20% لبريطانيا... وليست أمامي الآن نسب التوزيع فيما بقي، لكن إيطاليا تطالب بحق مكتسب، ثم إن الشركات الأمريكية تلح علي دخول قائمة الوارثين. بعد إرث الموارد هناك ثانيا تخصيص المواقع.. قاعدة للأسطول السادس في طرابلس لأمريكا ومراكز مخابرات في بنغازي وطبرق...".

شركات النفط الغربية هي اللاعب الكبير في إنتاج النفط الليبي في عهد القذافي. وهذا الوضع مستمر بالضرورة إلى ما بعد القذافي. إن ما يردده الأستاذ هيكل هنا ــــ إن صحّ ــــ ليس أكثر من إعادة توزيع حصص إنتاج النفط الليبي بين ذات الشركات الغربية. أما القواعد الأجنبية ــــ فزّاعة الخمسينيات والستينيات ـــــ فلنتركها للزمن ولما يمكن أن يبرزه الأستاذ هيكل من أدلة. لن أقول في هذا الصدد أكثر مما قلت، فهذا ترديد غير موثق أو موفق، ولا يليق بالأستاذ.. وهو يمثل إساءة للثورة الليبية يصعب تفسيرها على محمل حسن.

وتأتي الإهانة الكبرى لليبيين من الأستاذ هيكل عندما يقول:

"والآن أري أن المقاومة مستمرة وأظن أن الذين يقاومون مع' القذافي' يفعلون ذلك بانتمائهم إلي الوطن الليبي، ليس تمسكا بـ 'القذافي'، ولكن لأن هناك غزوا لليبيا، وأظن أن نفس الداعي سوف يصل بليبيا مدنا وقبائل إلي حافة حرب أهلية."

للحظاتٍ ظننت أنني أقرأ لشاكير.

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews