محمد المغبوب : النعم واللا



ذلك اليوم ..
رغم إعلان حضر التجول خرجنا جميعا نهلل ونكبر هاتفين ( للثورة ) فرحين بتجوال العسكر شوارع المدينة بعد البيان الأول الذي أنطلق من بنغازي التي نست اسمها وصارت تُدعى ( مدينة البيان الأول ) .
خرجنا كلنا وأذكر أن أول برقية تأييد كانت من سوق الجمعة تم إذاعتها من إذاعة الشط لتنهال بعدها البرقيات من كل المدن والأرياف وصرنا في حالة تباري لمن يكون الأول.
يومها لم يسأل أحدنا عن الذي يحدث .
لم نسأل عن أسماء الثوريين من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، ومن هم الضباط الوحدويين الأحرار ، وما هو مشروعهم النهضوي ، وما إذا كانت البلاد في حاجة إلى أداة للتغيير ، وما هو المستهدف ، كذلك السؤال عن حرية من  واشتراكية  من ، والوحدة مع  من وعلى أي أساس وبأي أسلوب ؟
يومها لم أتعرف إلى ماركس ، ولا أعرف جمال عبد الناصر إلا خطاباته الطويلة في حين أن هزيمة 67 ما زالت تكبر علينا ، غير أن قاعدة هويلس ليس بيني وبينها إلا السور الطويل .

يومها وإلى سنة 77 أحببنا القذافي وتزاحمنا على منصة خطاباته المرتجلة لساعات دون أن نلمس أي ملمح للتغيير يذكر ، مع ذلك طبقنا كل المقولات وأنخرطنا في صفوف الجيش  ذكوراً وإناثاً وربطنا الحزام على البطون ووقفنا طوابيرا طويلة أيضا أمام الأسواق العامة والإدارات العامة.
باختصار شديد كابدنا نكد الحياة بامتياز عظيم .
مررنا بمراحل قاسية جدا ولم يسأل أحدنا ( لماذا يحدث لنا كل هذا الخراب العظيم )؟
بين ذلك كله أخذ الفساد يتخلل كل شيء ويختال في مشية جنائزية نحن فيها الموتى على أكتاف بعضنا وكنا ندري أننا نشيع ليبيا معنا لو طال الطريق بنا إلى المقبرة.
اللجنة الشعبية العامة تحت نظر مؤتمر الشعب العام كانت هي اليد الطولى للنظام الذي لست أدري لماذا كان يكرهنا جيدا فبها فسد كل شيء وأخذ الاحتقان يملأ الصدور فيما بدأت القيم تأخذ معان أخرى والأخلاق العامة تتحلل ولا ندري ما نقول غير الحوقلة التي التصقت حروفها في الحلق.
الكثير من الأمور وجدنا صحف الحكومة تطرحها خلال السطور أقلها وبين السطور أكثرها دون أن ينسى أي كاتب أن يذكر الثورة وقائدها ( دمغة ) كما يقال أما من يجهر بالقول صراحة وعنوة فالسجن مأواه ومن أراد الرصيف فعليه أن يطنب في سرد الإنجازات الثورية حتى لا يكون اسمه بين قوسين ،كي يضمن راتبه الشهري أو يتفضل عليه بجائزة تقديرية أو تشجيعية بملغ يساوي ثمن سيارة كورية أو مشاركة خارجية بألف دينار .
هكذا لم تفلح الصحافة في تأسيس حوار ثقافي وطني فيما انصرف الإعلام المرئي إلى التبجيل ، وخلال كلام الصمت هذا وجدنا النكرات ، معرفة وتكونت بطانة شر على بطانة سوء قديمة وغابت الشفافية في الإدارة العامة إلى درجة أننا لم نفلح في إدارة أزمة كان يمكن الخروج منها عبر العودة إلى الأصل وبأقل التكاليف.
فوضى مرتبة خضناها أدارها كل عدو لليبيا أربكتنا وجعلتنا إلى السلاح نحتكم.
ذلك كله سببه لأنا قلنا نعم ولم نقل لا.
عند اليوم الثاني صباح 15 فبراير قلنا نعم .
لا أحد منا كان يعلم ما سيحدث فكل ما بين ضلوعنا أراد أن يبدل النعم باللا.
الشباب الذكور الذين شعروا بأن لا غدٍ لهم ولا من مستقبل ينتظرهم وهم يكتشفون الوعود الكاذبة بعد أن تأجلت أحلامهم دفعة واحدة .
الصبايا اللواتي كبرن في العنوسة .
 العواجيز الذين ابتعدت عنهم حتى الكعبة الشريفة ولم تعد تأتيهم في المنام .
الموظفون على حافة صندوق التقاعد .
الجنود الذين لا حرب سيخضونها من أجل الوطن في ظل لجنة مؤقتة للدفاع  بانت شيخوختها .
العمال وقد أقفلت كل المصانع وصاروا مع شرائح أخرى في قوائم صندوق القوى العاملة.
المثقفون وقد وقفوا في طابور الموت حيث داهمهم الكبر مبكرا بأسقام عدة وكل منهم تيقن أنه لم يفلح في تقديم ما يجدي ، وأن لا جدوى من أي شيء.
وحدهم من يديرون الفساد ويزدادون ثراءً فاحشاً يندر بتدمير القرى عليهم ، من ركن إلى الدعة والسكون وتأكد من أن أي شي سيقض مضجعه لن يكون فقد غرهم الغرور.
ذلك الصباح قال الشباب منا لا  ولابد من هدم المعبد من أجل بناء جديد .
بعشرات الآلاف من الشهداء ومثلهم من الجرحى والمستعاهين ، وبعشرات الآلاف من اليتامى والتكالى والأرامل والمشردين عند الحدود في الخيام .
بمئات الألوف من القصص البطولية والمأساوية .
بالجوع والعطش والظلمة ونفاذ المحروقات والوحشة والخوف .
بالرصاص الذي لعلع في السماء والدم المراق على ضفتي الحياة ، تحررت طرابلس أخيرا وصلت صلاة العيد في ميدان الشهداء ولابد أن ليبيا كلها أدركت متى تقول لا ومتى تقول نعم وكيف تعرف معنى الخطاب من لحن القول.
هذا اليوم ..
سيكثر الحديث خلال الأيام القادمة عن الدستور وعن تأسيس الأحزاب ، والنقابات وصناديق الاقتراع ،ومن سيشرف عليها ، وعن الرئيس المنتخب ، وعن دور القبيلة في الحياة ، وعن اليسار وعن اليمين ، وعن الثقافة الجديدة وعلاقتها بالموروث ، وعن البنية التحتية والفوقية ، وعن الأحوال الشخصية ودور الرجل والمرأة ، وتعدد الزوجات ، وعدد سكان ليبيا ، وعن بناء المدن ، وتمدين الريف ،وعلى أي طراز ، وعلاقتنا بالغرب والشرق والدول العربية ودول الجوار ، وعن المصالحة والوطنية ، وعن حالة التسامح وقيمة القصاص ، والمحاكمات العادلة ، وعن استقلال القضاء وعن الإعلام ، وعن الإدارة العامة وعن المدراء ، وعن الاستثمار الخارجي والداخلي ، والسياحة وما إذا كانت ستكون ثقافية أو استمتاعية  ، وعن  دور خطيب الجامع بل حتى صوت المؤذن ، وكذلك الخدمات العامة والمجانية ، والمقابل وعن تأسيس الجيش ومن هم منتسبيه والرياضة ومشاركاتنا الخارجية ، وهل سنكون دولة مستهلكة أم أننا سنلج باب الصناعة  ، ودور المصارف التجارية وقيمة الدينار الليبي أمام العملات الأخرى ، والتعليم العالي ، ومراكز البحث العلمي ومستقبل ليبيا بعد قرن من الآن.
 ولابد أننا قد وعينا الدرس كما ينبغي لنا وأكثر مما يجب .

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews