لا أدري من أين أبدأ ولا كيف أنتهي، دقائق أمضيتها مع قاتل أحمد الغرياني، بلال ليبيا، أثارت عاصفة من المشاعر المتناقضة داخلي، أحمد الغرياني أبرز شهداء الثورة الليبية، ظهر على شاشة قناة الجزيرة وهو ينزف وقاتله عطيه يأمره بالهتاف بحياة الطاغية، خلال المشهد يدوي صوت رصاص لتظهر بعده جثة الغرياني ملقاة في خلفية سيارة، الملايين من الناس رأت هذا المشهد وكذلك أنا، لكن ما يربطني بالغرياني صداقة تمتد لأكثر من عشرين سنة مما جعلني أتأثر بهذا المشهد أكثر من غيري، خلال الأيام الماضية سمعت بنبأ القبض على قاتل الغرياني فاجتهدت في محاولة لقاءه وكان لي ذلك يوم الخميس الماضي، أثار هذا اللقاء في نفسي مشاعر متناقضة وفتح الباب لتساؤلات عديدة، سأحاول فيما هو قادم من سطور أن أعبر عن بعض هذه المشاعر.
كنت حينها في العمل عندما رن هاتفي وأخبرني المتصل بأنه يمكنني مقابلة عطيه في موقع إحدى كتائب الثوار، استقليت سيارتي ومررت بأخي لأصطحبه معي لمقابلة قاتل الغرياني، وصلنا إلى مقر الكتيبة وانتظرنا بضعة دقائق أمام غرفة الحجز حيث كان يقبع عطيه، فُتح باب الحجرة وإذ بحطام إنسان داخلها، أمره الحارس بأن يخرج علينا ففعل ولم يكن له إلا أن يطيع الأمر، نظرت إليه لأرى من ذاك الذي تجرء على قتل الغرياني، وجدته رجل في العقد الرابع من العمر، يطأطأ رأسه خوفاً أو خجلاً أو ندماً، لا يمكنني أن أجزم، لا أدري أي نوع من المشاعر دارت بداخلي عندما وقع بصري عليه، لكن وبكل تأكيد لم أشعر برغبة في إيذائه فقد كان به ما يكفيه، تكلم الحارس موجهاً كلامه لعطيه ليُعرف بي فقال هذا صديق أحمد الغرياني ويريد أن يسألك عنه، كان عندي بعض الأمل أن يكون الغرياني على قيد الحياة، سألته حدثني عن ما جرى للغرياني، هل قُتل أم مازال على قيد الحياة؟ رد بصوت خافت لقد مات، لقد قتلته، أطلقت عليه النار، تكلم ببعض التفاصيل لكن تفكيري شُل وقتها، بدأ بعض الحضور في التعليق، أستجمعت نفسي وسألته، أين جثته؟ أين دفنتموه؟ قال أخذناه إلى مستشفى ابن سينا بسرت ثم دفناه في مقبرة بن همال، لم أتمالك نفسي فانفجرت بالبكاء وخرجت من الغرفة، بكيت بحرقة شديدة لفترة من الوقت ثم عُدت للغرفة، كان كل من في الغرفة يُأنب عطيه على فعلته، كيف يا عطيه تقتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أي جريمة إقترفت يداك يا عطيه، لكن عطيه لم يجد ما يرد به عن نفسه، سأل أحد الحضور عطيه عن عدد الذين أعدمهم فرد عطيه وقال أعدمت سبعة أشخاص فقط، وكأن سبعة أرواح قليلة في نظر عطيه، ويحك ياعطيه.
لا أدري ما الذي يجب أن يُقال في هذه الحالات، ما الذي يجعل رجلاً كعطيه يقتل الغرياني وهما لا يعرفان بعضهما ولم يلتقيا من قبل، ما أقبح القذافي ونظامه الذي جعل حدثاً كهذا يقع في بلادنا، وما أقبح عطيه وما أغباه ليضيع آخرته بدنيا غيره، وما أعظم الغرياني وما أجمله وما أبهاه، قبل أن أخرج من الغرفة وجهت نصيحة لعطيه لعلها تجد صدىً في نفسه، قلت يا عطيه أما دنياك فأراها قد ضاعت مع سقوط سيدك فتدارك آخرتك، يا عطيه لعل الله أراد بك خيراً بوقوعك في الأسر، تُب يا عطيه لله واصدق توبتك لعل الله يحسن آخرتك، لا أعرف كيف كان وقع كلماتي عليه لكن الأخبار بالأمس تفيد بأنه حاول الإنتحار وهذا أكبر دليل على أني كنت أخاطب بقايا إنسان.
قصة الغرياني واحدة من آلاف القصص التي وقعت في ليبيا، في هذه القصص عظات وعبر لمن كان له قلب، تفكرت في حال عطيه يوم كان في أوج قوته وجبروته وهو واقف على الغرياني يهدده ومن ثَم يقتله، وحاله الآن وهو أضعف وأهون ما يكون فتذكرت قول الشاعر:
لا تظلمن ما دمت مقتدراً فالظلم آخره يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
د.عبدالله أعبودة
No comments:
Post a Comment