في شهر مارس الماضي دعيت لندوات عديدة في مدن مختلفة، وكان كلامي عن " إدارة الأزمة " والتي تفاعل معها الحضور بشكل كبير، وأعجبتهم، كما استفاد من هذه المادة في صورة دورة عدد من الشباب المتدربون على القيادات الشبابية.
ولكوننا نمر بمرحلة حرجة، بدأ فيها الكلام من هنا وهناك، ووصل لحد التخوين والتجريح، بل أكثر من ذلك!، وجدت نفسي تدفعني للكتابة من جديد في هذا الموضوع الحساس والهام جدا.
الأزمة يمكن تعريفها بأنها: فترة حرجة أو حالة غير مستقرة يترتب عليها حدوث نتيجة مؤثرة، وتنطوي في الأغلـب علـى أحداث سريعة وتهـديد للقيم أو الضروريات أو الأرواح أو الأهداف التي يؤمن بها من يتأثر بالأزمة.
وهي إما أن تكون مفتعلة، أو خارج السيطرة، في حالة افتعالها عمدا كإستراتيجية في التعامل، يكون الهدف منها إدارة الأمور من خلال خلق الأزمات، إذ الأزمات مربكة ومهددة للناس، وبالتالي يعيش الناس وفقا لهذه الإستراتيجية في ربكة مستمرة ممنهجة، وهذا ما كان يجيده النظام الظالم السابق؛ التضييق الاقتصادي، السكن، الرواتب، التعليم، الصحة، التدريب العسكري، الحروب، الإرهاب الأمني ... ألخ. بحيث لا يستقر وضع الناس لفترة ما، حتى يخرج للناس بأزمة جديدة، وإلهاء جديد. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه " الإدارة بالأزمات " .
في حين أن الأزمة التي تحدث دون ترتيب لها؛ كمثل ثورة 17 فبراير، وما صاحبها من سقوط النظام الظالم في وقت سريع في بعض المدن، فوجد الناس أنفسهم أمام انهيار كامل لكل شيء، وباتت ملامح هذا الانهيار وتداعياته تظهر للناس على أصعدة عدة، هنا يأتي دور " إدارة الأزمة " من أجل السيطرة على الوضع غير الطبيعي، والمفاجئ للجميع.
ولكي يمكننا فعلا التمكن من إدارة الأزمة؛ على المتصدرين لهذه الأزمة، عليهم أن لا يتعاملوا معها بنفس العقلية التي يتعامل بها الإداري أو"القيادي" في وضع طبيعي أو مشكلة متوقعة، فريق إدارة الأزمة الذي لا يتحلى منهم بالإبداع سيكون نتاجه في إدارة الأزمة نتاجا تأزيميا أكثر من كونه حلا وحسن تسيير لها. والمخرجات من إدارة الأزمة هي ـ فقط ـ البرهان على حسن الأداء، أو ربما تدل على أنها إدارة بالأزمات وليست إدارة للأزمات!
وفريق إدارة الأزمة معني بأن يحل كل جوانب الأزمة بطريقة إبداعية استيعابية، لا أن يطرح المشاريع والأفكار التي تزيد من الأزمة أو لا تخفف منها؛ إن حدث ذلك فهذا يدل على عدم استيعاب للواقع الذي يتحرك فيه هذا الفريق، وفقدان هذا الفريق لأسس العمل الإبداعي، وعدم القدرة على استيعاب الواقع، وضعف التفكير الإبداعي؛ خلل في هذه الشخصية أو فريق العمل كله.
وقبل الدخول في جوانب واقعية في إدارة الأزمة التي نحن بصددها، لابد أن أؤكد قناعتي بأن يد الله كانت ترعى هذه الثورة، تخطيطا وحفظا وتسديدا، يد الله هي العليا، ثم بعد ذلك بمراحل تأتي جهود المخلصين من أبناء هذا الشعب الحبيب، بكافة أعمالهم.
لا شك بأن ظروف وحيثيات تشكيل المجلس الانتقالي كانت ظروفا صعبة، وفيها ربكة كبيرة في بداية أمرها، سواء في اختيار الأعضاء والغموض في ذلك، أو حتى في اختيار المستشار مصطفى عبد الجليل نفسه، والحمد لله تم تجاوز هذه المرحلة بعُجرها وبُجرها، واستطاع المجلس مع المكتب التنفيذي أن يتجاوز بعضا من مكونات الأزمة؛ وعلى سبيل المثال الاعترافات الدولية والحراك السياسي الخارجي، وهذه نقطة واضحة يجب أن نبرزها للمجلس والمكتب بكل من فيه ومع كل من تعاون معهم، هذا طبعا كانت قاعدته الرئيسة وقوته هو عمل الثوار في الجبهات، وليست التحركات وحدها.
لكن على مستوى الحراك الداخلي، كان الأداء أقل بكثير مما هو مأمول، سواء على مستوى الصلة بين المجلس والمكتب، أو الصلة بين المجلس الوطني والمجالس المحلية، أو الصلة بين المجالس المحلية والناس، هذا فضلا عن ضعف الإعلام الموجه داخليا، وظهور ملامح فساد إداري ومالي في بعض الجوانب، كمثل موضوع المصرف المركزي أو السلع الإغاثية أو غيرها.
وعلى مستوى الحراك الداخلي أيضا، ثمة ضعف في ترتيب الأولويات؛ فنجد طرح موضوع التدخل العسكري البري الخارجي لفترة، ومشروع الدستور لفترة، في حين الأمور الداخلية لا يزال الناس يشكون من كثير من الأمور.. هذا كان في أول الثورة، أما اليوم فنلاحظ التخبط في المكتب التنفيذي وقائده، فمن حكومة مؤقتة إلى وطنية إلى أزمة .. وكل ذلك يدل على أزمة، بل ربما يدل على الإدارة بالأزمة فعلا.
لننظر إلى حجم ثقة الناس بالمجلس، نجده وافرا جدا، في حين ثقة المجلس بالناس لا تزال هشة إن لم نقل غير موجودة؛ فحين تكون المجلس تحدثوا عن أعضاء في المجلس لا يمكن التصريح بهم للظروف الأمنية، ثم ليظهر لاحقا أن لا وجود أصلا لهؤلاء الأعضاء!، ثم غاب العذر الأمني وغاب معه التصريح بأسماء وأعضاء المجلس الوطني؟!
ثم لننظر إلى التفكير في استيعاب كافة المناطق من خلال حكومة المحاصصة، والتعليل الرسمي في ذلك " أن يعترف بجميع المناطق الليبية أنهم أبناء بلد واحد ، استتباب أمن، وفاق وطني، كي يخرج الثوار من طرابلس، ويعود الأمن للبلاد " وتوسعت الحكومة في عدد مقاعدها ليصل إلى 35 وزيرا، حتى قيلت نكتة " رسمية " صدرت من رئيس المكتب " ناقص الثروة الحيوانية نقسمها: وزارة للمعيز، وزارة للأبل ..." !!!! هكذا إذن هدف هذه الحكومة استتباب الأمن والوفاق الوطني يكون بتوزيع الحقائب على المناطق .. مع أن بين الهتافات والشعارات التي كانت في منطلقا للثورة: ليبيا واحدة ولا للجهوية والقبلية. ألا يمكن أن تكون هذه الفلسفة سببا في إثارة الجهوية التي حرص الظالم الفار على زرعها، ألا توجد لهذه الفلسفة مخاطر كبيرة على مستقبل البلاد؟ ثم إن الحديث " الرسمي " دار أيضا حول دور البلديات الكبير وتقديم الخدمات من خلال البلديات " فتفقد الحكومة المركزية أهميتها " لماذا إذن تبرز الجهوية والمحاصصة في مستوى وزاري إذا اعتمدنا على الدور الكبير للبلديات؟ ولماذا كل هذا العناء إن كانت الحكومة العريضة هذه سوف تفقد أهميتها!؟! مشكلة سيعاني المعيز وقتها كثيرا!!!
ولكم أن تقيسوا عدة قضايا عشناها كمثل: السلع الإغاثية، الجرحى، الأدوية، إدارة المدارس، وغيرها وغيرها.. حتى تصريح السفير الأمريكي الأخير يدل على هذه العقلية، والذي لم يجد من يردعه.
قد نكون ـ كشعب ـ اعتدنا على الإدارة بالأزمات لسنوات طويلة، ويصعب علينا التكيف مع الإدارة الصحيحة، قد تكون هذه عقلية المسئولين اليوم، كما كان يقال دائما الشعوب العربية أقل نضجا من الديمقراطية، لا شك عندي أن هذا ضرب من ضروب الاستخفاف، وعدم العمق في تحليل المشهد يدل على تأثر أيضا " بقابلية الاستخفاف ".
وأحب أن أختم بالحديث عن التيارات السياسية والفكرية في ليبيا والتي قيل عنها " رسميا " أنها تيارات ( مفلسة ) وهي التي في الأصل تكون جزء من الوفاق الوطني والحوار الوطني، طيب، إن نحن حكمنا عليها بالإفلاس كيف سأحاورها وأنا أصدرت حكمي عليها!!!! وفي مقابل ذلك أعطي المناطق الجهوية أنصبة من الوزارات، وأنا أعلم وأخطط بأن هذه الحكومة كلها ستفقد مركزيتها إلا الوزارات السيادية؟ كيف أصدر الحكم على التيارات السياسية والفكرية بأنها مفلسة وسأدعوها للحوار!!! فعلا سيكون حوارا بناء غنيا بالثراء والإثراء، وكيف أقيم حكومة لهدف أنا معتقد في نفسي بأنه لا قيمة لهذه الوزارات، بما فيها وزارة المعيز.
نسأل الله السلامة في العقول والإخلاص في القلوب، والإجادة في الأداء، فقد تعب الشعب تعب الناس، وكما حفظ ربي هذه الثورة في نشأتها، سيحفظها في صعودها ونمائها، ولو كره المتأزمون.
يدا بيد ... نحو المعالي
No comments:
Post a Comment