إبراهيم محمد طاهر : رمضان و ثوارنا في الجبهاات


مُنذ بضعة أيام التقيتُ بأحد معارفي الذي كان قد عادَ لتوهِ مِن الجبهة.. وحين أقول الجبهة، فأنا لا أعني بها مُخيمات النازحين على الحدود، ولا المستشفيات الميدانية هنا وهناك، ولا أعني بها حتى تلك البقعة الساخنة التي يَزدحم فيها المراسلون والمسعفون؛ ولكنني أعني الجبهة التي يَهطل فيها الموت كالمطر قذائفاً ورصاصاً، أعني الجبهة التي تعلم فيها هذا الرجل كيف يعرف بُعد الرصاص والقذائف بالتحديد من صوتها، الجبهة التي اختلطت فيها رائحة الدماء برائحة البارود فأصبحت رائحةً واحدة في عقله، الجبهة التي رجع منها خبيراً في الأسلحة والإسعافات الأولية، الجبهة التي شاهد فيها رحيل رفاقه الثوار شهداءً أحراراً، ومجئ جنود الكتائب أسرى القيود والعار... تلك الجبهة.. هي التي عاد منها.

    هذا الرجل روى لي الكثير من القصص: حدثني عن أول أيامه هناك، وأخبرني عن أوضاع بقائهم على الجبهة، شرح لي بالتفصيل كيفية عمل العديد من الأسلحة، وروى لي قصصاً مؤلمة عن الدماء والموت... ولم يَخلُ الأمر مِن بعض المواقف المضحكة، ومن بعض قصص الخوارق والمعجزات. وفي خضم أحاديثه هذه، بعد تَطرقه إلى الحديث عن الفروق التي لاحظها في المعنويات والتصرفات بين الثوار والكتائب، وَصَلَ بحديثه إلى اقتراب شهر رمضان المبارك.
    لقد أوضح لي أنه لا يمكن لأحد أن يقول بأن أوضاع الثوار ليست مُتعبة، هم لا يتحدثون عن ذلك فقط لأنهم يعلمون أهمية ما يفعلونه، هم يعلمون أن تعبهم وأي ظروف صعبة أخرى يواجهونها على الجبهة هي في سبيل أهداف أعظم – هم يدركون أن دمائهم ودموعهم وعرقهم كلها رخيصة في سبيل الحرية والوطن والثورة. وفي ظل هذا، فإنه ِمن المُقلق قليلاً أن نفكر في (الجبهة) في شهر رمضان؛ فالظروف ستزدادُ صعوبةً وتعباً مع الصيام، وجميعنا على ثقة بأن ثوارنا الأبرار لا يحاربون فقط بالبنادق والمدفعية، ولكنهم يحاربون أولاً وأخيراً بإيمانهم، ولذلك فنحن مُوقِنون من أنهم سوف يخوضون معاركهم من أجل الحرية في رمضان وهم صائمون، بينما يمكننا أنْ نتأكد من أنَّ جنود الكتائب – الذين لا يحاربون باسم أي مبادئ أو قيم، وتصرفاتهم تفيض بالانحطاط إلى حد الغثيان – سيفطرون بلا شك خلال رمضان.. فكما يبدو، (ربنا) نحن ليس هو نفسه (ربهم)...

    وهنا يكمن مصدر القلق: تأثير الصيام على قُدرات ثوارنا الأعزاء. نحن لا نعلم متى سيكتمل النصر لثورتنا، ومتى ستنتهي هذه الحرب، قد تنتهي في هذه الأيام القلائل قبل بدء شهر رمضان الكريم، وقد تنتهي خلاله، وربما تتزامن النهاية مع العيد فيكون عيدنا عيدين... ولكنه يبقى موضوعٌ يجب أن نتطرق إليه.
    وعليه رأيت أنه من الضروري مناقشة هذا الأمر ومحاولة نشر وتعميم (جواز الفطر) في رمضان لثوارنا الأشاوس على الجبهات، وأنه لا حرج عليهم في ذلك.

    وقبل أن يتسرع أحدٌ من القراء الكرام في التهجم علي بسبب ما قلته الآن، وقبل أن يتهمني أحدٌ ما بأنني لا أثق في الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بأن الإيمان هو أقوى سلاح وبأن ثوارنا سيزدادون قوةً وثقةً بالصيام، اسمحوا لي بأن أقول لكم بأنني أعلم ذلك وأؤمن به.
    الإيمان هو بالفعل أقوى سلاح على وجه الأرض، سواءً أكان هذا الإيمان هو بالله أو بالحرية أو بالحق فهو يظلُّ الشيء الوحيد الذي لا يُمكن أن يُكسر إلا من قِبل صاحبه، ونحن نعلم أن الإيمان يمنح المرء طاقةً أقوى من الغذاء والشراب وحتى المنشطات والهرمونات! ونعلم علم اليقين أن قلب المؤمن هو أقوى ما على هذه الأرض، أقوى من الجبال والحديد والنار. ولكن، وإن كان الإيمان غير محدوداً في قوته، إلا أن الجسد البشري له حدوده... وديننا الإسلامي دينٌ وسط، وهو من أكثر الديانات – إن لم يكن أكثرها – مراعاةً لمطالب الروح والجسد وموازنةً لتكليفهما اعترافاً بضعف الإنسان؛ ومن هنا جاءت الرُخَص، من هنا جاء الاعتدال الذي يتصف به ديننا ومراعاته للتخفيف ورفع الحرج، والله سبحانه وتعالى يقول: ((يُريدُ اللهُ أن يُخَفِّفَ عنكُم وخُلقَ الإنسانُ ضعيفا)) [النساء:28]. ولهذا يجب علينا أن لا نظن بأن الأخذ بيُسر ديننا، وتقبل هدايا التخفيف والرُخص التي منحها لنا الله هو يأسٌ أو قنوطٌ من رحمة الله ونُصرته لنا.

    بصفةٍ عامة فإن من أسباب جواز الفطر (إرهاق الجوع والعطش) والخوف من الهلاك بسبب ذلك، ومن هذا الباب كانت إجازة الفطر للمريض وللمسافر، وبنفس المبدأ ينطبق الأمر على إجازة الفطر للمُقاتِل؛ فمن كان يخشى أن يضعفه الجوع والعطش عن مواجهة عدوه جاز له أن يفطر قبل القتال.
    ومن أقوى وأفضل الأدلة على جواز الفطر عند مواجهة العدو هو الحديث الذي رواه أبا سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه عن فتح مكة، والذي يقول فيه: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوتم مِنْ عَدُوِّكم، وَالْفِطرُ أَقْوَى لَكم)) فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكم وَالْفِطرُ أَقْوَى لَكم، فَأَفطِرُوا)) وكانت عزمة فأفطرنا.) [صحيح مسلم: 1895]، وبالإضافة إلى صحيح مسلم، فهذا الحديث موجودٌ أيضاً في مسند أحمد بن حنبل، وفي جامع الترمذي، وفي سنن أبي داود، وفي تهذيب الآثار للطبري، وفي السنن الكبرى للبيهقي. والحديث معناه واضح: فالرسول الكريم أخبرهم حين (اقتربوا) من العدو بأنه يجوز لهم أن يفطروا حيث نصحهم بقوله: ((والفطر أقوى لكم)). ولكن حين أصبح لقاء العدو (حتمياً) في صباح اليوم التالي (أمرهم) الرسول بالفطر بقوله: ((فأفطروا)). كما نلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتحدث عن إرهاق السفر أو تعب الجوع والعطش، ولكنه يقول ((والفطر أقوى لكم)) فهو يناقش ضرورة وأهمية الغذاء من أجل القوة عند القتلا، وهذا يكون من باب تفسير قول المولى عز وجل: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)) [الأنفال:60].
    وبلا شك فإن الفطر أولى في الجهاد والقتال منه في السفر كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله؛ فمشقة الجهاد أكبر وأعظم من مشقة السفر، والهلاك في القتال قد يكون حتمياً أكثر مما هو عليه في السفر، كما أن القوة عند القتال لا تخص الرجل الواحد، وإنما هي تعود عليه وعلى بقية من معه، فقوته ليست في سبيل الدفاع عن نفسه فقط، ولكن في سبيل الدفاع عن غيره أيضاً، والمصلحة العامة بلا شك تستدعي هذه الإجازة. والعلماء المسلمون لم يقصروا جواز الفطر في القتال للغزوات فقط – التي يسافر فيها المقاتلون – ولكنهم أفتوا بجوازه حتى حين يكون المسلم مُقيماً ويُهجم عليه، وقد افتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأهل دمشق عندما هجم التتار عليها. وعِبرة الأمر كما يتضح لنا مما سبق، ليست في السفر أو التعب أو الإرهاق بالدرجة الأولى، ولكنها في (القوة) الضرورية التي يحتاجها مَن يُقاتِل.

    وهنالك أدلةٌ كثيرة أخرى على جواز الفطر عند القتال. فبالإضافة إلى الحديث السابق عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، يُروى عن عُمرٍ بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (غَزونا مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلم في رمضانَ غزوتين يوم بدرٍ ويوم الفتح، فأفطرنا فيهما) [جامع الترمذي:647].
    ولعل أقوى هذه الأدلة كلها هو الحديث الذي يرويه ابن عباس رضيَ اللهُ عنهما حيث قال عن خروج المسلمين عام الفتح: (خرجَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسَلَّم مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ، فَصامَ حَتى بَلغَ عُسْفانَ، ثُمَّ دعا بماءٍ، فَرفَعَهُ إلى يديهِ لِيُريهُ الناسَ، فأفطرَ حتى قَدِمَ مكةَ وذلكَ في رمضان. وكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر.) [البخاري:1822]. وهذا الحديث موجودٌ بعدة روايات وألفاظ في صحيح البخاري، وفي صحيح مسلم، ومسند أبي حنيفة، ومسند أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، والسنن الكبرى للنسائي، وتهذيب الآثار للبيهقي. وكما تلاحظون في هذا الحديث فالرسول لم يكتفي بإجازة الفطر للمسلمين، ولكنه أفطر هو نفسه عليه الصلاة والسلام أمامهم ليروه فيعلموا أنه أجاز الفطر لهم، بل وجعله سنةً تُتبع.

    إن العبرة من إثارتي لهذا الموضوع هي بصفة عامة الفكرة الأساسية لإجازة الفطر عند القتال: ألا وهي القوة التي يحتاج إليها المقاتلون من أجل الدفاع عن أنفسهم وأهلهم وبلادهم.
    الهدف من هذا الكلام ليس اليأس أو القنوط، وليس التخويف من تعب الصيام، ولكنه توضيحٌ لوسطية واعتدال ديننا، وبيانٌ لمراعاته للضعف الإنساني؛ فنحن في بعض الأحيان نَتطرفُ في تطبيق ديننا بدرجةٍ تؤدي إلى تهلكتنا، وثورتنا المباركة هذه ليست وقتاً مناسباً للمبالغة في تطبيق الدين بدون فهم واضح للتخفيف الوارد فيه ولأحكام رفع الحرج التي يتميز بها ديننا الحنيف.

    نحن لن نُنكر قوة الإيمان، ولن ننكر حتى حق من يريد أن يصوم في أن يصوم، فغالبية الأحاديث التي يُستدل بها على جواز الفطر عند القتال تحتوي على توضيح وذكر لواقع أن هنالك من أفطر وهنالك من صام، ولكننا نريد ما فيه خير ثوارنا الأعزاء على الجبهات وما فيه خير ثورتنا. فثوارنا الأبطال يَحملون السلاح ويُقاتِلون باسمنا جميعاً، يُضحون بكل شيء في سبيل ليبيا وشعبها.. هم ليسوا قوات المعارضة، ولا هم كتائب المجلس الانتقالي، إنهم ثوار ليبيا كلها، تركوا ما بين أيديهم وما خلفهم، وحملوا السلاح وانطلقوا إلى الجبهات، أرواحهم على أكف أيديهم يعرضونها بكرمٍ وسخاء في مقابل حرية وكرامة الوطن والشعب...

    ولا يسعنا أن نقول لثوارنا الأعزاء إلا (شكراً)... وبسبب عِرفاننا وشكرنا يجب علينا أن نُذكرهم أيضاً بإن إيمانهم بالله وبالوطن لا يزيدهم إلا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى غفورٌ رحيم، لطيفٌ على عباده، عادلٌ في تكليفهم، فهو عز وجل يُقدم لهم هذه الهدية بحكمةٍ إلهية، يُخفف عليهم ويَرفعُ عنهم الحرج لكي يحملوا لواء الحرية ويدافعوا عن وطنهم وشعبهم بقوة. فهذا التخفيف في شهر (الرحمة والغفران) هو من صور نصر الله سبحانه وتعالى لنا، والأخذ بذلك لن ينتقص من إيماننا شيئاً؛ رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام جعلها لنا سنةً وأمراً، بل إن الأخذ بهذا التشريع والعمل به يزيد إيماننا ويُقويه؛ فهو اعترافٌ منا بضعفنا وباعتمادنا على رحمة الله سبحانه وتعالى.

    وفي الختام لا نجد أفضل من أن نقول: الحمد لله على رحمته التي وسعت كل شيء، الحمد لله على حكمته وعدله ولطفه، الحمد لله على ديننا المعتدل الوسط، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على ثوارنا الأبطال.

No comments:

Post a Comment

Followers

Pageviews