عين تنبجس في روح المرء، تارة تسيل، وتارة تنفجر ويعلو ماؤها، تلك هي الحياة التي نعيش .. يحس المرء فيها بظمأ في تحركه حيناً، ويشعر بالارتواء في قلبه حينا آخر، يتقلب حاله فيها بين مد وجزر، يغسل قلبه يطهره من زلاته وعثراته، ويفركه من ظنون الناس وآثامهم وأوهامهم وأحقادهم، يتوضأ فيها مستقبلا ربه، بأمل، مهما تألمت نفسه من أنين الجراح، وأنفاس الشجن.
يسقي أحدنا شجرته بهذه العين ـ الحياة ـ متقلبا في أيامها وما تحمله من سلب وإيجاب، يزرع قيما في ذاته، ويسقي فكرا في عقله، ويقلّب مشاعر في صدره، ويهذب سلوكا في أدائه، مثله كمثل الحياة الدنيا كلها؛ ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) وما يزال العاقل يرعى ويشرف ويدقق في كل شجرته ـ ذاته ـ يعلي هامتها، يقص أغصانها، يجمع أوراقها، يحصد ثمارها، يعطي نتاجها، ثم لا يزال الماهر في تحسين نتاجه.
كذلك، العاقل من يحسن إعلاء هامته بالقيم والمبادئ الراقية العالية بكل تواضع، لكنه علو الواثق، يقص من حياته كل غصن ذابل في العلاقات والأفكار والرؤى والمشاريع، يجمع الأوراق البالية ليضعها حيث تستحق، ويحصد ـ حينا بحين وموسماً بموسم ـ نتاجه، بل ويرقب تحسن ذاك النتاج؛ لأنه الحريص على النتاج النافع المفيد؛ ذاك ما يبقى في الأرض ـ نفوس الناس ـ ناقلا لهم بذورا وأغصانا وثمارا من الخير تترى، ليزرعوها في أراضٍ أخرى؛ تجمع الماء وينمو فيها الزرع.
من الناس من لا يعي هذا القانون الكوني الرباني، فتراه غير مهتم بشجرته ـ بذاته ـ غير مكترث أصلا بنوعية هذه الشجرة؛ أهي نخلة سامقة، أم زيتونة مباركة، أم هي شجرة للحطب ورماد النيران. ومن الناس من يعي ذاته غير أنه لا يحسن السقاء والرعاية؛ فربما تجد الأصل الطيّب والمبارك ، لكن الإهمال ضارب فيها، وربما مالت سوقها وتعلقم نتاجها، وهو يظن أنه على سواء. ومن الناس من يعرف نفسه ويهتم بها وبعدم اعوجاجها وبطيب طعمها، لكنها الشارد عن أغصان ميتة وأوراق ميتة، فتراه مشتت الاهتمام تأكل من طاقته علاقات فارغة، وأفكار بالية ورؤى خفيضة ومشاريع غير ذات جدوى. فلا يكون النتاج وقتها إلا متأثرا بتلك الأوصاف.
هكذا طول العمر، وهكذا هم الناس، حصاد أعمارهم من حيث النتاج مختلف، ومن حيث القامة يختلف، ومن حيث الطعم يختلف أيضا، ولكن سنة الله التي غرسها في البشر، أنهم قادرون على أن يكونوا في أحسن نتاج، في أحسن تقويم، لكنهم هم الذين ينزلون إلى أسفل سافلين، وما بين حسن التقويم وأسفل السافلين، درجات ومنازل؛ بحسب الإدارك والوعي والعمل وفقا لقانون الله في كونه المهيمن عليه.
وما تمر به بلادنا من أحداث كبيرة، جزء من الحصاد العام لليبيا، وبحسب حصاد كل امرئ منا يكون الحصاد العام، فإن كان حصاد المجموع خيرا كان النتاج ـ في مجمله ـ طيبا، وإن كانت الأخرى كان النتاج كذلك، غير أن ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) وبلدنا بلد طيّب وأهله أهل طيبون، وأتمنى أن يراجع الجميع شجرته بكل تفاصيلها، كي تكون بلادنا الغالية بستانا من الخير وعابق النبات، خاصة أننا على أبواب شهر كريم يحسُن فيه مثل هذه المراجعة.
ونجفل من خبث النتاج ونسعى لقلعه واجتتاثه ( والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) والأمل والرجاء في الله كبير، أن يعين أهل هذا البلد الطيب، أن يقتلعوا شجرة البؤس والظلم والفساد من أرضنا جميعا، وأن يمن علينا بشهر رمضان وقد اجتثت هذه الشجرة بكل فروعها من أرض الأحرار ليبيا.
كان أبو عثمان سعيد بن خلفون الحشاني ( ت 362 هـ ) جالسا في مسجده المسمى باسمه، فسمع تحته دويا عظيما اهتز المسجد له، فخرج بعض من كان معه لاختبار ذلك، فوجده شخصا يقطع الحجارة من كهف تحت المسجد، فنهاه عن ذلك، فلم ينته، فرجع إلى الشيخ واخبره. فنزل الشيخ إليه وقال له: اتق الله فإنك تزلزل المسجد بهذا الذي تصنع، فقال له: ارجع أيها الشيخ لمسجدك، فإن الوالي أمر بذلك. فقال له الشيخ: لو أمرك الوالي أن تهدم المسجد كنت هدمته؟ فقال: نعم والله لو أمرني بذلك فعلت. فعاد الشيخ إلى المسجد، وقال: اللهم احصد عمره. فسقط جزء من ذلك الكهف على الرجل فقتله.
هذا أحد أعلام ليبيا الفضلاء وعلمائها الكبار، طرق باب السماء طالبا من الله، حصد عمر هذا العامل الظالم المعين للوالي الظالم، ونحن على سنن الاقتداء نقول: اللهم أحسن نتاجنا، و بارك في أهل هذا البلد الطيب، واحصد عمر الطاغية الظالم وكل فروعه وأوراقه، وادخل علينا شهر رمضان المبارك وقد حررت ليبيا كلها.
نشر في المنارة الورقية
العدد الخامس 22-7-2011
No comments:
Post a Comment